حرب حزيران التي مرّ عليها أمس 38 عاما تقسم حياتي - مثل حياة الدولة - حسب التناسب التالي: ثلث حياتي قبل الحرب وثلثين من بعدها. سيكون من الصحيح القول إنني أحاول انقاذ نفسي - أنفسنا - خلال كل الفترة التالية للحرب من الخطأ الفظيع الذي دفعنا للبقاء في المناطق التي احتللناها في الحرب بدلا من العودة الى ما كنا عليه بعد احراز النصر مثلما يحدث في كل عملية حربية دفاعية، كل ما أحاول ان أفعله خلال هذه الحقبة هو ان أضمن عيش أحفادي في هذه البلاد كما عشت أنا خلال العقد الأجمل والأهدأ في حياتها - حياتي من 1957 حتى 1967. صحيح أن أحداثا طرأت في الشمال وحتى في جبل المشاهد في القدس، وحدثت مشاكل حول قضية «من هو يهودي» وتكشفت جوانب «صفقة الخزي» الفاسدة، وحدثت اضطرابات وادي الصليب، وساد الركود الاقتصادي، إلا ان عشرين شخصا فقط قُتلوا في اعمال العداء في تلك الفترة، ونظام «الزهد» تبدل من خلال النمو الحثيث. الثقافة والدراسة والعلم ازدهروا كما لم يحدث في أي وقت من الاوقات، وامتدت الخدمة العسكرية لسنتين ونصف، بل وقصرت لسنتين وشهرين حتى. الاطفال سافروا في الباصات والأهالي لم يخشوا على حياتهم. اسرائيل الستينيات كانت دولة واثقة من نفسها ومزدهرة - مستوعبة للهجرة ومرتبطة مع الشرق والغرب وأخت شقيقة لدول افريقيا التي حصلت على استقلالها الناجز. العالم أدى التحية والاحترام لنجاحاتها في مجال الزراعة والعسكرية والاستيعاب، وبدا وكأن شيئا لا يمكنه أن يقف في طريقها. الدراسات التي نشرت في الستينيات توقعت ان تصبح اسرائيل من الدول الأكثر تطورا في العالم خلال ربع قرن من الزمان، ولكنهم لم يأخذوا بالحسبان امكانات حدوث الحرب والعمى الذي أصابنا إثرها (حرب حزيران). كنت جزءا من هذا العمى. جندياً غرّاً تحول في آخر الحرب الى جندي عادي، وسمعت بين طرق الجولان وسيناء عن احتلال القدس، ولم أعرف كيف أسيطر على نفسي من شدة الفرح والسعادة. ست سنوات من الوهم مرت علي أنا ايضا الى أن أدركت حماقة قرار موشيه ديان بأن «شرم الشيخ أفضل من السلام»، وخطأ الاحتفاظ بالضفة الغربية وعدم اعادتها مقابل السلام بسبب مشروع ألون الذي سعى الى ضم 20 في المائة من الضفة، ومقولة آبا ايبان الفظيعة حول حدود اوشفيتس. وحدث ايضا خطأ غولدا مئير ويسرائيل جليلي ورفاقهما الذين رفضوا اقتراح غونر يارينغ بالتوصل الى اتفاق مع مصر على شاكلة كامب ديفيد منذ باكورة تشرين الثاني 1971 رغم أن السادات كان موافقا على ذلك. وخطأ اقامة مستوطنات في سيناء والضفة والجولان من خلال الاعتقاد بأننا ما زلنا نعيش في العشرينيات والثلاثينيات، وان هذه المستوطنات ستدافع عن تل ابيب. فقط عندما كان علينا ان نُخلي منازل الاطفال في كيبوتسات الجولان بصورة هستيرية، أدركت مدى قِدم الاعتقاد بأن المستوطنات هي «درع واقٍ» والى أي حد شكلت المناطق المحتلة خطرا علينا بدلا من أن تكون حاميا لنا. هذه الايام الستة عشية عيد ميلادي التاسع عشر كانت الايام الأكثر بطولة في حياتي والتي تبدلت فيها المخاوف الفظيعة الوجودية بألبومات الانتصار وحل محلها الاعجاب بالجنرالات وألبومات الانتصار والاعتقاد أننا امبراطورية كبيرة. بهذه الطريقة جلسنا بانتظار اتصال الملك حسين الهاتفي وكأننا في حِل من هذا الواجب. الايام التي حولتنا الى محبوبين جدا في نظر يهود الشتات. كانت هذه صدمة المعركة التي يشعر بها المنتصرون الذين لم يكن لديهم تصور حول ما نفعله بالثروات الطبيعية الاقليمية التي سقطت غنيمة في أيادينا وبين ألترمان وعغنون اللذين دعيا للبقاء في ارض اسرائيل الموحدة، وليفون وليفوفيتش اللذين دعيا الى الانسحاب منها بصورة أحادية الجانب - هم فعلوا ما يفعله الناس في ظل الصدمة: واصلوا ما اعتادوا عليه. الحكم العسكري الذي ألغي في اسرائيل في كانون الاول 1966 استؤنف في المناطق بعد ذلك بنصف سنة. أما اقامة المستوطنات والكيبوتسات التعاونية في المناطق المحتلة فقد كانت امتدادا مباشرا للتقدير (الخاطئ) قبل قيام الدولة بأن الحدود المستقبلية ستتحدد بواسطة المستوطنات التي سيجري بناؤها. ثلثا حياتي مرا وأنا أحاول العودة الى اسرائيل التي استلبت مني في حزيران 1967، ولست أنوي التنازل عن هذه الأُمنية ولا حتى لصالح النشوة والحنين. علينا ان نقطع علاقتنا الصامتة التي لا نتحدث عنها مع المناطق التي نحتفظ بها. كثيرون قد تحرروا من العمى الجماعي، وهم يدركون الثمن الفظيع - اخلاقيا ويهوديا واقتصاديا ودوليا - الذي ندفعه بسبب هذه الصلة. والسؤال الوحيد هو اذا كانت الأقلية الباقية في الظلام ستبقى على دفة القيادة أم انها ستجلس في جوانب السفينة تاركة المتيقظين المتبصرين أن يقودوها.