ما أشبه شخصيّة المدن بخصائص الكائن الحي حين يبدأ صغيرا ثم فتيّا فشابا ثم يشيخ ويذوي، وهكذا هي المدن حينما تشيخ لا يمكن أن تستعيد ألق الصبا ومرحه، وكثيرا ما جزمت لأصدقائي بعد إقامة طويلة في أوروبا أن هذه القارة "كهلة" جذّابة ولكنها لا تملك سحر مدن "آسيا" الناهضة ولا تتمتع بحيويّة كثير من المدن الأمريكية. وأذكر أيام الدراسة والغربة أنّني حاولت استبدال منزلي بمنزل آخر بدا لي أكثر جمالا ولما تردّدت حاول مسوّق العقارات إغرائي مذكّرا أن البيت الذي نقف أمامه شُيّد وفق العمارة الحديثة! بعد الحرب العالمية الثانية. ولما تردّدت وتعجّبت قال هل تعلم أن المنزل الآخر الذي حاز على إعجابك تم بناؤه منتصف القرن الثامن العشر إبّان العصر الفيكتوري The Victorian era فعدتُ ورضيتُ بسكنى المنزل الحديث!!. وعلى مدار السنين وفي أكثر من مدينة أوروبية كانت الأسئلة التي تراود الذهن دوماً حول أسرار هذه النمطيّة العتيقة السائدة في تنظيم البناء الأوروبي، وكيف صمدت العمارة والهندسة القديمة أمام موجات البنايات العصرية بحيث بقيت المدن والبلدات الأوروبيّة تتشكّل حول الكنيسة الكبرى وقاعة المدينة ثم تتصل طرقات المدينة ببعضها على شكل شبيه بالصليب صُمِّم بحيث تتمحور نشاطات السكان والزائرين من مركز المدينة City Centre بمقاهيه وحوانيته العتيقة. وفي هذا الشتاء رأيت "براغ" (أجمل المدن الكلاسيكية) وهي تضع بعض مساحيق العصر على وجهها الذي أنهكته الحروب والايدلوجيا. ويشرح لك من تسأله من سكان المدينة كيف ضاقت هذه المدينة الفاتنة قبل غيرها بأنفاس الشيوعية فانتفضت فيما سُمي "ربيع براغ" سنة 1968 ولكن ذلك الربيع لم تتفتّح أزهاره فعادت المدينة والدولة إلى حضن الدب الروسي حالمة بالحريّة إلى أن تحقّق لها حلمها بداية التسعينيات حينما فشلت العقيدة الشيوعيّة في إطعام الجائعين بغير الشعارات. ويبدو اليوم واضحاً وسط مدينة براغ "Praha" كيف تطلّ "ايقونات" الرأسمالية الحديثة من كل مكان فهذه لافتات المطاعم السريعة تحاصر الزائرين وترى الدولار سيّد السوق يستعرض عضلاته أمام "الكورونا" الضعيفة. ولن تخطئ عيناك كثرة صور نجوم الغناء والسينما الأمريكية على واجهات دور العرض وعلى "فاترينات" مخازن الملابس والعطور لتكشف لك وللمدنية عن عصر عولمي جديد ومستقبل لا يترحّم على ذرّة من الماضي. وحينما سألني رفيق الرحلة عن انطباعي عن مدنية "براغ" قلت له وأنا أتأمل قسمات مدينة "المئة برج": ما أشبه ملامح هذه المدينة بجمال سيدة خمسينية راقية تجدها حينما تنظر إليك وقورة وعلى ملامحها شيء من الأرستقراطية والكبرياء الحزينة وكأنها تتحسّر على شباب ولّى بلا رفيق وتركها على ناصية العمر تتساءل هل بقي فيها ما يغري زائرها وخاطب ودّها. **مسارات: قال ومضى: لقد اخترت طريقك يا صاحبي... ولو تقبّلت الذبابة عادات النحلة لاستمتعت برحيق الأزهار مثلها.