للمدن ملامحها، وللمدن روائحها، إنّها شخصيّات من نوع خاص، وليس لك وأنت تنبش في الذاكرة إلا أن تؤمن بأنّ لكلّ مدينة صورتها التي تميّزها، ومظاهرها التي لا تختلط بسواها، في كلّ مدينة توجد أشياء تمنحها ما به تكون صورتها مختلفة عن مثيلاتها. حينما تزور ميدنة لأوّل مرّة تبدأ بقراءة الوجود من جديد، الشوارع والمباني والعابرون، الأزقّة والأضواء وروائح الأشياء، أصوات النّاس وأنغام الموسيقى وإيقاع ألوان الملابس وواجهات المتاجر ووجوه الكبار وحركات الصّغار، ومظاهر الفتنة والجاذبية في الجميلات. يحتاج المرء أن يتعلّم كيف يقرأ المدن، وإنّه لأمر بالغ الصعوبة أن تتاح الفرص الكثيرة لزيارة هذا العالم دون أن نحسن قراءة المدن بالطريقة التي تجعلنا نعيش التجربة عميقًا، فنوغل في الوعي بحقيقة تلك المدينة، ونمضي عبر مساربها وحياة أهلها وتاريخها لنجد أنفسنا نكتشف أين هي ممّا نعرف، وأين نحن ممّا يعرف التاريخ والآخرون، وإنّ قراءة مدينة ما بقدر ما هو إيغال في تاريخ اللّحظة يمثّل إنتاجًا لمعرفة قد لا يتيسّر لنا إيصالها إلى الآخرين بنفس الإحساس الذي ينبض في أعماقنا. أحيانًا تصبح المدن مجرد لغة حين نكون برفقة من يعرف كيف يتحدّث عنها، ومرآة لروح الإنسان الذي يقدّمها بحب إليك، تشفّ المدينة كما تشفّ الروح، تقرأها -كما يقول حسن نجمي- على أطراف أصابعه وإيماءات يديه وعينيه لأنّه يضيئ ليل الخطوات المندهشة المتعثّرة بخطو حاملاً العالم في رأسه، وأنت تحمل جسدك نحو العالم، وهو يعرف كيف يرى، وكيف يصف، وكيف يسمّي، وكيف يقول الأشياء. إنّ قراءة المدن وهي تستحضر التاريخ والجغرافيا بالسير فيها تستلزم كمقدّمة لهذه المغامرة الرغبة في البحث عن روح المكان ونبضه والتوقّف عند مفاصل تكوينه وعناصر مكوّناته وتأمّلها ومحاورتها بصمت، والتفرّس في ملامح وجهه من أجل العثور على العلامة الفارقة.