يقول مؤسس أمريكا وأول رئيس لها (جورج واشنطن): (إن التوسع التدريجي لمستوطناتنا سيجعل المتوحشين يتراجعون تدريجياً، وكذلك الذئاب، فكلاهما طرائد للصيد، مع أنهم مختلفون شكلاً).. هو يقصد الهنود الحمر الذين لا سبيل للتعامل معهم إلا بقتلهم كما تقتل الذئاب.. هذا الربط ما بين «الهندي» و«الذئب» جاء مرة أخرى مصوراً مجسداً في فيلم (الراقص مع الذئاب - Dances with Wolves) الحائز على أوسكار أفضل فيلم عام 1990، لكنه ربطٌ جاء معاكساً لما كان يرمي إليه (واشنطن)، لا بل مصادماً له بشدة، إذ عمد مخرج الفيلم وبطله النجم (كيفن كوستنر) إلى إظهار تضامنه و تعاطفه الشديد مع الهندي ومع الذئب على السواء، وكأنما هو بذلك يعلن اعتذاره عما قاله رئيسه (واشنطن) في يوم من الأيام.. وبعيداً عن هذه المصادمة، فإنه يمكننا أن نستشف دلالة أخرى لوجود «الذئب» في الفيلم، ولعلاقة الصداقة التي نشأت بينه وبين بطل الفيلم الإنسان «كوستنر»، فبطل الفيلم منذ البداية يأتي مشحوناً بتصورات وأفكار مسبقة مستمدة من ثقافة العرق الأنجلوساكسوني، العرق الأبيض، التي ترى في «الآخر» المختلف عنها وحشاً ضارياً، غير عاقل، لا سبيل للتعايش معه، لذلك يجب الحذر، إذ لن يأتي منه - حتماً - سوى الضرر.. و«كوستنر» حين اختار «الذئب» تحديداً فهو إنما جاء بأقصى حالة عداء ممكنة قد تتكون يوماً بين «الإنسان» وبين أي مخلوق آخر.. لكن، ورغم أصالة حالة العداء هذه، إلا أن بطل الفيلم استطاع أن يكوّن صداقة آسرة مع هذا العدو، الذئب، متجاوزاً كافة الآراء والتصورات والأفكار المسبقة التي تربى عليها وباتت مقدسة في ذهنه، وفي الذهنية الغربية عموماً.. وكأنه بكل ذلك يريد أن يقول: (ربما تجد نفسك أسير ثقافة وماض يشحنك ضد عرق ما، ضد ديانة ما، أو حتى ضد شخص ما.. إن واجبك هو ألا تستسلم لهذه الأفكار الجاهزة، أن تقفز عليها وتتجاهلها تماماً، وأن تذهب إلى «الآخر» لترى بنفسك ما عنده وهل هو يستحق كل هذه الكراهية.. وفي هذا الشأن لا تثق إلا بنفسك وفيما تراه فعلاً) .. و«كوستنر» لم ير من الذئب، ولا من الهنود الحمر، إلا كل ما ينسف تصوراته السابقة، حيث الطيبة والصداقة العميقة، التي مكنته من أن يتحرر من كل الإرث الكريه الذي صنعه أجداده.. إن هذا المعنى الإنساني الذي ينضحه فيلم (الراقص مع الذئاب) هو ذاته الذي يحرك عالم اللسانيات الأمريكي نعوم تشومسكي، وهو نَفَس ثابت في كافةمؤلفاته التي لا تخلو من الإشارة إلى ضرورة غربلة الماضي وإعادة رسم صورة «العدو» من جديد بمعزل عن التصورات المسبقة التي كرّسها الأجداد في مواقفهم وفي مؤلفاتهم المختلفة.. ذات الأمر يسري على المخرج الأمريكي المعروف «أوليفر ستون» والذي يبدو، منذ فيلمه الرائع (بلاتون - Platoon) ، ميالاً إلى نسف كافة المفاهيم التي تسعى الإدارة الأمريكية، وهوليود عبر أفلامها العديدة، إلى غرسها في ذهن الأمريكي العادي، تلك المفاهيم التي تدعي التفوق والعظمة لأمريكا في مقابل الوحشية والبشاعة لكافة الأعراق والأديان الأخرى المختلفة.. «أوليفر ستون» كان في بداية حياته السينمائية عنصراً مشاركاً في أفلام تحمل نفساً عنصرياً، كفيلم (قطار منتصف الليل - Midnight Express) وَ فيلم الجريمة الرائع (الوجه ذو الندبة - Scarface) للنجم آل باتشينو، في هذين الفيلمين يظهر المسلمون والكوبيون بصورة سيئة وبشعة للغاية.. لكنها البدايات التي ستتغير لاحقاً حين يبني «أوليفر ستون» اسمه ويصبح نجماً سينمائياً لافتاً، عندذاك سيتغير خطابه بصورة حادة ليصبح أكثر إنسانية وأكثر إلحاحاً على معرفة الحقيقة مهما كانت صادمة ومهما كانت مؤلمة.. تظهر الملامح الأولى لهذا الخطاب الجديد مع الفيلم الحربي (بلاتون) الذي حاز أوسكار أفضل فيلم عام 1986، ثم مع الفيلم الحربي (مولود في الرابع من يوليو - Born on the Fourth of July) الذي حاز عنه أوسكار أفضل مخرج عام 1989، وفي هذين الفيلمين يضع «ستون» أفكاره الخاصة والصادمة والرافضة لكافة المبررات التي تحاول منح صبغة شرعية للتدخل الأمريكي في «فيتنام».. في عام 1992 جاء «ستون» بفيلمه السياسي الخطير (JFK) الذي يعلن فيه رفضه التام للأقوال التي أطلقتها الإدارة الأمريكية حول قضية اغتيال الرئيس الأمريكي «جون كينيدي»، ويبدو جلياً فيه إلحاحه على «فكرة» عدم الاستسلام للاعتقادات الواضحة، فهو هنا يدعو إلى تجاوز الواضح ومحاولة قراءة ما وراءه.. بعد ذلك يقدم فيلم (Heaven & Earth) وفيه يتابع كفاح امرأة فيتنامية عانت الأمرين من الأمريكيين، وهو هنا كأنما يسعى إلى «أنسنة» العدو الذي كنا نراه وحشاً لا غير.. ثم في العام 1994 يقدم رائعته البصرية المبهرة (قتلة بالفطرة - Natural Born Killers) والتي تعتبر بمثابة مبحثٍ في الشأن الإعلامي، إذ كأنه، وهو الذي تأكدت له أصالة العنف في الذات الأمريكية، يُحمل الإعلام مسئولية هذا العنف الذي سيطر على شخصية الفرد الأمريكي.. هذه القراءة السريعة لأفلام «أوليفر ستون»، وإيرادنا السابق لفيلم (الراقص مع الذئاب) ولتلك العلاقة التي نشأت بين الإنسان والذئب، قد تجعلنا نفهم الخطوة الجريئة التي خطاها «أوليفر» في عام 2002 حين قدم فيلمه التسجيلي الرائع (القائد - Comandante) والذي يتمحور حول القائد الكوبي الشهير (فيدل كاسترو) .. «أوليفر» هنا يلتقي ب «كاسترو»، العدو، الذئب، شخصياً في وكره في قصر الثورة في العاصمة الكوبية هافانا، وهو لا يبحث من خلال هذا اللقاء عن معرفة تاريخ الثورة وعن إنجازاتها، لا، هو ببساطة يسلط الضوء على قائد هذه الثورة، على «الإنسان» الثاوي خلف البدلة العسكرية التي يرتديها الزعيم الكوبي.. منذ بداية الفيلم يصر «أوليفر ستون» على إيراد كم كبير من التعليقات التي بثتها التلفزة الأمريكية في العام 1959 يوم انتصار الثورة الكوبية وإطاحتها للدكتاتور «باتسيتا»، وكأنه بذلك يريد توجيهنا نحو «القوالب» الجاهزة التي اعتاد الإعلام الأمريكي على وضع أي من أعدائه فيها، وذلك كي نتشبع بها وتصبح جزءاً أساسياً من تركيبتنا الذهنية، ومن ثم نسير في رحلة فكرية فلسفية سياسية ماتعة مع هذا «الإنسان» كاسترو، وشيئاً فشيئاً تتكسر تلك الرواسب والاعتقادات حتى نتأكد أخيراً من زيفها.. إن «كاسترو» ليس أبداً كما صوره الإعلام الأمريكي، هو ليس مثالياً، وليس قديساً، لكنه -وهذا المهم- ليس الوحش الذي رسمته الإدارة الأمريكية واستغلته لتخويف شعبها منه ومن بقية «المختلفين» الآخرين، وحتى لو كان وحشاً، أفلا يمكن أن يكون كذئب «كوستنر» في (الراقص مع الذئاب)؟ ألا يمكن مصادقته؟.. يقول «كاسترو»: (الثورة هي مجرد حركة إصلاحية، وليس هناك من سبب يدعو الأمريكان لمعاداتنا.. نحن لا نضمر الشر لهم.. لكن هناك مشكلة الحكومة التي تسيطر على الشعب الأمريكي سيطرة كاملة، إذ يكفي أن تقول إن «كاسترو» شيوعي لتضمن عداء الشعب له.. هناك جملة مقدسة يقولها كافة الرؤساء الأمريكيين «إن كاسترو خطر على الأمن القومي».. حين تقال هذه الجملة تحديداً يصاب الشعب الأمريكي بحمى وهستيريا).. بعد كلمة «كاسترو» هذه يأتي «أوليفر ستون» بصور تلفزيونية عديدة لزعماء أمريكا، كينيدي، نيكسون، ريغان، بوش الأب، كلينتون وبوش الابن وهم يتلون ذات الجملة.. كأنه بذلك يريد أن يزعزع ثقتنا بالمؤسسة وبالإعلام وبمصطلحاته الجاهزة.. كأنه يدعو إلى نسف التصورات والأحكام المسبقة.. كأنه يدعو إلى مصادقة الذئب!