هو أحد صناع نهضة مصر الحديثة إبان القرن 19، الرجل ابن نخبة صنعت فيما مضى مجد هذا الوطن، وسعيه نحو مشروع الحداثة الذي أجهض بعنف!!شغل وظائف الهندسة والتعليم والجيش والأوقاف، وبنى المتحف وأنشأ دار العلوم ودار الكتب وأقام الجسور وألف سفره الهام «الخطط التوفيقية»، وكان من الحالمين بمصر قطعة من أوروبا فشارك الخديوي اسماعيل في بناء الجمعية الجغرافية التي جاورت المتحف العلمي المصري الذي أقامه نابليون بونابرت. وألف رحمة على «ميريت» باشا، والخواجة «ماسبيرو»، والمهندس «أحمد كمال»، وجناب الخديو وبنته فاطمة اسماعيل التي اقامت من حر مالها جامعة تشبه السربون، شاهدة في المكان والزمان. ألف رحمة عليهم لأنهم غادروا الدنيا من غير عزاء كبير قبل أن يروا تفحم ما أقاموه، هذين المبنيين العبقريين «الجمعية الجغرافية» و«متحف العلوم» حيث ذهبت محتوياتهما للنار وللريح. أمضيت عمري أغادر التحرير، وأمر من جوارهما فلا أنا قدرت القيمة، ولا عرفت المحتوى، ولا دعاني أحد اقام فيها ندوة، أو اكتساب معرفة او حتى دعوة للفرجة، أو حضور حفل استقبال مثلما يقام في أتفه الاماكن، لأشاهد طرز البناء، والفرجة على المقتنيات والتحف.. ذكرتني بهما النار التي اشتعلت في أزمان التخلف، وغياب الوعي، ازمان لم تعرف النهضة، النار، التي لم تخرج طائرة واحدة لإطفاء حريقها، زمن غياب النخب التي عادت قديما من باريس لتؤكد المعنى بأن الفرد يساوي الجماعة، لأنه يعبر عن حلمها في التغيير والتحديث، والقدرة على الفعل واستخدام الخيال. الآن، يخرج من الليل بلطجي، من بين هؤلاء الذين لم يتذوقوا يوماً ثقافة، ولا عرفوا قيمة للعلم، ولا أحسنوا الاستماع لقصيدة من الشعر.. هجامة من هؤلاء المداهمين، الذين تنتعش اعضاؤهم وسط الفوضى، وامعانا في الوصول للنشوة يشعلون النار فيما لا يعرفون!! أحدق الآن في المبنى فلا أجد سقفه، وجدرانه التي تشبه الركام الذي بقى من حريق الأوبرا القديم، وغيرها من متاحف ومسارح ومنازل أثرية أطاح بها الجهل، وعمى البصيرة، وسطوة سنوات القمع واستبدال الزعيم نفسه بالأمة. أستعيد الذاكرة فأعرف أن الجمعية الجغرافية، نشأت العام 1875 بهدف معرفة شئون جغرافية البلدان، وتكون الخبرة والمعلومة عن ارض افريقيا، وأنها استمرت تصدر للباحثين مجلة بالفرنسية، وظلت مكانا في الزمن الأخير لا يزوره إلا الاجانب، وتضم مكتبة الجمعية مجموعة لا تقدر من الخرائط والكتب، وبها متحف انتوجرافي. رأسها عالم النبات الشهير والمستكشف الألماني جورج اوجست، وأطلق عليها اسم من بناها، لكنهم في العام 1953 قد غيروا الاسم الى "الجمعية الجغرافية المصرية".ظلت مكانا لاكتشاف الاقاليم، ومعرفة أحوال من يجاورنا، ومجمع معارف، ومتحفاً به الخرائط، والقطع الاثرية علامة على مجد القرن 18، كما تحتوي على قاعة الهوايات والتقاليد والمدن والألعاب والملابس وقطع الجوهر تضوي في أركان المكان، وتماثيل لأناس من هناك جاءوا ومروا من هنا وأحبوا مصر الوطن والناس والتاريخ كما أنها تحتوي على مجموعة مهداة من قناة السويس، كما تضم العديد من الموسوعات العلمية التي لا تقدر، والمجمع العلمي الذي افترسته النار، والذي أنشأه الاستعماري نابليون بونابرت بعد دخول الحملة الفرنسية مصر في العام 1798. طور المتحف الخديوات، وباشوات مصر من نخبة القوم، وأغوات عصر الملوك فلا حول ولا قوة إلا بالله!! فأضافوا اليه الخرائط التي رسمها 150 عالماً من الفرنسيين، واشتغل عليها الكثير من المتخصصين، كما أن المبنى الذي احترق اقامه الملك فؤاد في عام 1925 استكمالا للمبنى القديم في القرن 19، وكانت به 200 ألف من المجلدات في العلوم والفنون، بها أربعون الفاً من الكتب النادرة. يأتي الغلام، الخارج من قلب العشوائيات، على تخوم مدينة كانت صاحبة مجد بائد، قادماً من زمن غياب الوعي، فينتقل بشعلة النار من ركن لركن، منبهراً بعالمه المجنون أحدق في الشرر بفزع، وأرى الشرير يمعن في شره، وأنا أسمع من البعد أجراساً تنذر بالخطر على أيامنا البائسة!!