مثلما أن المجتمعات محكومة ومغتبطة تلقائياً بالتوارث أو التناسل الثقافي التلقائي فإن الأصل في الفرد أيضاً أنه كائن تلقائي، وأنه مأخوذ كلياً بالمحاكاة وبما تتشرَّبه ذاته تلقائياً من البيئة. فهو مُبرمج ثقافياً منذ ولادته بنوع من أنواع الوعي والعقل وبنمط من أنماط التفكير والمنطق وبمنظومة من منظومات القيم، وبأنواع من الاهتمامات وبسلسلة من عادات الفكر والفعل. إنه يفكر ويتحرك ويتصرف ويحب ويكره ويوالي ويعادي تلقائياً طبقاً للثقافة التي تطبَّع بها، ويبقى في الغالب طول عمره مغتبطاً بما تبرمج به ولكنّ ذوي العقول المضيئة النادرة الجياشة الناقدة المتسائلة يكتشفون نقائص السائد فيدركون مكمن الخلل فيه ثم تتراكم هذه الاكتشافات والإدراكات حتى تصير بثقلها الباهظ قادرة تلقائياً على كسْر وتفجير قوالب التنشئة التلقائية فيصبح المرء خارج إطار البرمجة فينفك من الوعي الزائف المهيمن في البيئة ولكن قد ينفك أحياناً من دون إطار أو قالب بديل وبذلك يقع في كرب شديد ويصير أمام امتحان عسير لأنه ليس بمقدوره العودة إلى تلقائية التنشئة التي انكسر إطارها عنه وليس بحوزته تلقائية بديلة يطمئن بها ولا يمكنه الهدوء والاستقرار النفسي إلا إذا اكتسب تلقائية جديدة تعيده للانتظام التلقائي بوعي ممحّص جديد أما مادام من غير انتظام تلقائي فإنه يبقى في حالة كرب شديد وقلق مرهق لأنه لا يستطيع الاستمرار من دون تلقائية.. ليس أمام الفرد إذا انكسرت عنه تلقائية التنشئة بوعيها الزائف وغبطتها الساذجة وبداهاتها الواهمة إلا أن يتحمل مسؤولية ذاته ويجتهد في تكوين وعي ذاتي جديد ورؤية ذاتية يقتنع بها تزيل عنه الكرب وتطفئ القلق المتأجج في داخله وتعيد الطمأنينة إلى نفسه وبذلك يكتسب تلقائية جديدة بوعي ذاتي ممحّص أما إذا عجز عن بلوغ الاطمئنان فإنه يبقى حائراً وغير مستقر نفسياً فليس أمام الفرد إذا انكسرت عنه تلقائية التنشئة بوعيها الزائف وغبطتها الساذجة وبداهاتها الواهمة إلا أن يتحمل مسؤولية ذاته ويجتهد في تكوين وعي ذاتي جديد ورؤية ذاتية يقتنع بها تزيل عنه الكرب وتطفئ القلق المتأجج في داخله وتعيد الطمأنينة إلى نفسه وبذلك يكتسب تلقائية جديدة بوعي ذاتي ممحّص أما إذا عجز عن بلوغ الاطمئنان فإنه يبقى حائراً وغير مستقر نفسياً فالحياة الطبيعية للإنسان هي الحياة التلقائية ولا يستطيع الفرد أن يعيش حياة سوية منتظمة إلا إذا بقي على تلقائيته الأولى التي تشرَّبها عفوياً من البيئة، أما إذا اضطربت أو انكسرت هذه التلقائية فإنه لن يستقر نفسياً حتى يتوصل إلى رؤية بديلة مقنعة له ويتشبع بالأفكار البديلة فتصير هي تلقائيته الجديدة ويعود إليه الاطمئنان مرة أخرى فينتظم مع أفكاره الجديدة ويطمئن بالرؤية التي توصل إليها وبذلك يكتسب تلقائية تخصه وحده خارج التلقائية السائدة في مجتمعه فالمهم أن يعيش منتظماً ضمن إطار تلقائي وقد يصير بذلك رائداً من رواد الفكر والعمل وحادياً من حداة التنوير والتطوير وذلك بعد أن تتبلور لديه هذه الرؤية فيعمل على تقديمها للناس ودعوتهم إليها كرائد خارق للتلقائية السائدة شأن ديكارت وأمثاله من الرواد.. أما إذا مااستمر حائراً فقد يتطور القلق إلى اكتئاب فالاكتئاب هو اضطراب شديد في التلقائية وعجز عن الانتظام التلقائي؛ فالشخص المكتئب يكون في الغالب قد اعترته مشكلات لم يستطع التكيف معها فاضطربت تلقائيته ولكن حالة الاضطراب قد تتفاقم فتبلغ درجة الغليان فيحصل الانفجار إن هذا الانفجار المروع يمثل انفراط تلقائيته فيدخل في الانفصال الرهيب فليس الجنون في بعض حالاته طبقاً لنظرية التلقائية سوى انفلات أو انفراط للتلقائية ويحتفظ لنا التاريخ بنماذج مروعة ومعبِّرة أشد التعبير عن مآزق انكسار التلقائية لمفكرين وفلاسفة عظماء لم يستطيعوا التكيف بعد الكبر مع التلقائية التي تشرّبوها في طفولتهم فوقعوا في كرب شديد بسبب انكسار تلقائيتهم وهو انكسار كاد أن يذهب بعقولهم المتوقدة المنفكة عن تلقائية التنشئة البليدة وكان الفيلسوف الشهير رينيه ديكارت من أبرز هذه النماذج حيث انكسر قالب التقليد الذي كان قد تبرمج به بالتنشئة التلقائية دون أن يكون لديه بعد هذا الانكسار قالب بديل فأحس أنه هوى في الفراغ المرعب، وأنه ليس حوله ما يمسك به ليستعيد اطمئنانه. لقد فقد الثقة بالحواس ثم فقد الثقة بالعقل وكاد أن ينزلق إلى الجنون لكنه بحدس خارق استعاد الثقة بأوليات العقل فقال قولته الشهيرة: «أنا أفكر إذن أنا موجود» لقد شك في كل شيء حتى في وجوده ذاته لكن حدسه الخارق أعاد إليه الثقة بأوليات العقل فأدرك أنه مادام أنه يشك ويقلق ويتألم فإن هذا الشك وهذا الألم برهان ساطع على أنه يفكر ومادام أنه يفكر فإنه موجود فمن أعماقه التلقائية عاد إليه اليقين يقول ديكارت: «ثم أخذتُ أشك في كل شيء ثم اهتديت إلى أنه طالما أني أفكر فأنا كائن ولكني وسط هذا الشك المطلق يكمن في داخلي ما يقاوم هذا الشك وهو أني أقوم بعملية الشك وهنا في مقدوري أن أشك في كل ما يرد على الذهن فيما عدا حقيقة شكي والشك عملية تفكير فأنا أفكر حين أشك والتفكير موجود فطالما أنا أفكر إذن أنا موجود» فخرج من هاوية الفراغ المحض المخيف وكوَّن لنفسه تلقائية بديلة حققت له الاطمئنان وكشفت له عن الطريق وقد كانت هي المفتاح الفعال لانتشال الثقافات الأوروبية من ركودها المزمن البليد وإيقاظها من غبطتها العميقة الساذجة فبهذا الانكسار التلقائي للقالب الثقافي الذي كان يتحرك داخله تفكير ديكارت انقشع عنه الوعي الزائف وانبلج أمامه الأفق المفتوح فراح يحث الناس على التخلص من أغلال التلقائية البليدة.. إن أغلب الكتب التي تناولت حياة وفكر ديكارت تأتي بمقولته الشهيرة وتمررها وكأنها محاجّة منطقية محضة وتُغفل المحنة الذهنية والنفسية التي مر بها مع أنها ذات دلالات في غاية الأهمية لكن أكثر مؤرخي الفلسفة والدارسين لفلسفة ديكارت لم ينتبهوا لأهمية هذا النص بكامله وإنما يقتطعون نهايته فقط: «أنا أفكر إذن أنا موجود» فلا يذكر الكرب الفظيع الذي تعرض له ديكارت سوى مراجع محدودة مما جعل الواقعة تغيب عن التداول فلا يفطن لها إلا الذين ينقبون في حياة هذا المؤسس العملاق للفكر الحديث.. ومن المعلوم أن ديكارت هو أهم مؤسسي الفكر الأوروبي الحديث فهو في طليعة الرواد وهذا شاهد قوي على أن التقدم الثقافي والحضاري ينهض على جناحين: جناح الريادة الفردية الخلاقة وجناح الاستجابة الاجتماعية الايجابية الكافية.. إن ديكارت قد انكسرت عنه تلقائية التنشئة فخاض داخل ذاته معركة فكرية مروعة لتكوين تلقائية بديلة وقد تحقق له النصر المبين في هذه المعركة الفكرية الفاصلة ولأنه رائد استثنائي فإنه لم يكتف بإنقاذ نفسه من بلادة الاستسلام لتلقائية التنشئة البليدة وإنما توجه للناس في عصره وفيما تلاه من عصور لإخراجهم من البرمجة التلقائية الآسرة فدعا إلى تسليط أضواء النقد على الآراء المسبقة والتصورات غير الممحصة وغربلة كل الرواسب التي تبرمجت بها العقول تلقائياً بل دعا كل فرد بأن يبدأ في تكوين عقله من نقطة الصفر لا ليحذف كل محتويات ذهنه وإنما ليضعها كلها تحت مشرحة التحليل والتمحيص . لقد نادى بالنفير الثقافي والشك المنهجي والمراجعة الشاملة من أجل كسر القالب المصمت للتلقائية الذي تكوَّن بالتراكم التلقائي خلال القرون فاستقر من غير أي تمحيص وقد استجابت أوروبا لهذا النفير وانتقلت به من تلقائية التكرار البليد والدوران الرتيب إلى تلقائية جدل الأفكار وبزوغ الإبداع والتحرك الصاعد فانكسار التلقائية المتحجرة هو بداية الانطلاق نحو الازدهار لكن كل انكسار للتلقائية قد يصحبه ويعقبه اضطراب في الأحوال والأوضاع حتى يتحقق الانتظام من جديد وتسود التلقائية الجديدة وهكذا دواليك، وبهذا يحصل التطور الثقافي ويتحقق الازدهار الحضاري.. إن خروج أي مجتمع من قوقعة التلقائية السكونية الاجترارية المنتظمة وما يعنيه من كسر للانتظام ثم اقتحام آفاق جديدة يشبه حالة الولادة بل إنه ولادة طويلة وعسيرة فلابد أن تصاحب هذه الولادة العسيرة آلام شديدة وتمزقات حتمية وما يعقبهما من التوتر والجيشان والاضطراب إلى أن تتكون تلقائية بديلة فتلتئم الجروح ويعود الانتظام فالتغير على مستوى الأفراد والمجتمعات يتطلب انكسار التلقائية المنتظمة المستقرة.. وقد واجه الإمام أبو حامد الغزالي موقفاً مماثلاً للموقف الذي واجهه ديكارت فقد انكسرت زجاجة التقليد التي تحيط به وانفجر القالب الذي كان قد صاغ عقله وعواطفه وحدد نمط تفكيره فلم يستطع بعد انكسار القالب التلقائي أن يحتفظ بتلقائيته التي امتصها وتبرمج بها في طفولته رغم حرصه على ذلك وكما يقول: «إذ لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته» فانكسار التلقائية قدر وليس اختياراً إنه طفرة تلقائية وليس تخطيطاً فقد كابد الغزالي معضلات الشك وعانى من ويلات الحيرة وكاد أن يهوي في بالوعة الشك المطلق الذي لابد أن ينتهي به إلى الضياع المروع لقد فطن لمفارقات الاتجاهات البشرية في مختلف الشعوب والأمم وعلى امتداد العصور واقتناع كل اتجاه اقتناعاً غبياً بأنه وحده الاتجاه الصحيح فبذل جهداً خارقاً للاستقصاء والتحقيق ولكن هذا الجهد لم يحقق له الاقتناع الذي ينشده ولا الطمأنينة التي يبحث عنها وإنما كانت الشكوك تتسع كلما أوغل في البحث فكلما لجأ إلى ملجأ من ملاجئ التحقق وجده ينهار أمام تحليلاته.. لقد اكتشف الغزالي ان الاتجاهات تتناقض تناقضات صارخة ومع ذلك يعيش الناس المبرمجون بأي منها مستسلمين له ومغتبطين به ومقتنعين بأنه الحق المطلق!! فتساءل الغزالي أين الحقيقة إذن؟!! وحاول أن يعتمد على وسائله الذاتية بانفتاح كامل على كل الاتجاهات فلم يقتنع بأي منها وناقش أدوات المعرفة أيضاً فوجد أن الحواس خداعة وقاصرة عن إدراك الحقيقة فلجأ إلى العقل ولكن ما كاد يطمئن إلى حكم العقل حتى ألحت عليه الشكوك في العقل نفسه وهذا هو المنزلق الخطير لأنه بذلك يخرج من اطار التلقائية التي تبرمج بها كما يخرج أيضاً عن التلقائية الإنسانية في أوليات العقل الأساسية لأن هذه الأوليات هي صمام الأمان فإذا أفلتت من الإنسان انفصل عن الوجود وغاب حتى عن نفسه وهوى في هاوية العدم المرعب والنفي المطلق وهذه الحالة هي التي مر بها الإمام الغزالي وأنقذه الله منها بتلك الإشراقة الحدسية الخارقة.. لقد حكم الغزالي مراحل الشك الذي هاجمه على النحو التالي: «فقالت الحواس قد كنت واثقاً بي فجاء حاكم العقل فكذبني ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر إذا تجلى كذّب العقل في حكمه كما تجلى حاكم العقل فكذّب الحس في حكمه وعدم تجلى ذلك الإدراك لا يدل على استحالته فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في نفسي: حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية فإذا لم تكن مسلَّمة لم يمكن تركيب الدليل» . لقد انهارت التلقائية التي كان يعيش داخلها في الثقافة السائدة فاهتزت الأرض من تحته، ولم يجد حوله ما يمسك به فشك في كل شيء ولم تعد وقائع الحس ولا ضروريات العقل معتبرة عنده لأنه قد شك فيها كلها وعند هذه الذروة من التوتر لمع الحدس الخارق وانتشله من هاوية الشك المطلق وكما يقول: «فأعضل هذا الداء ودام قريباً من شهرين أنا فيهما على السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف» ثم يقول: «فمن ذلك النور ينبغي أن يُطلب الكشف وذلك النور ينبجس في بعض الأحايين ويجب الترصد له» لقد انكسرت التلقائية التي كانت تمنح الإمام الغزالي الطمأنينة والأمان كما تمنح غيره فوقع في محنة مدمرة من الشك المطلق وصار على حافة الهاوية ولم يعد يثق بأي شيء يتمسك به فلم يعد يثق بالحواس ولا بالعقل وبينما هو يعيش في هذه الحالة من الهلع من ناحية، ومن التركيز والاهتمام والغليان من ناحية أخرى انبجس أمامه ذلك الحدس الخارق فأنقذه الله به فاكتسب تلقائية بديلة وعاد إليه الاطمئنان.. لم يحصل الغزالي على الحل العجيب عن طريق البحث الرتيب وإنما توصل إليه حدساً نتيجة الاهتمام القوي المستغرق فلقد أتاه فجأة حدس خارق وأشرقت في ذهنه فكرة رائعة وحاسمة أعادت إليه ثقته التلقائية بعقله فأدرك ادراكاً مفاجئاً ومضيئاً وكاملاً أن ضروريات العقل تلقائية وأنها لشدة تلقائيتها لا يصح البحث عنها فهي برهان ذاتها، إنها حاضرة دوماً فإذا بحث عنها العقل فكأنه يبحث عن نفسه فإذا شك العقل في ذاته لم يجد ما يحتكم إليه فيسقط في الفراغ المرعب ويقع في الحيرة المروعة فالذي يشك في ضروريات العقل ينفلت منه العقل ذاته فالحضور التلقائي المباشر لضروريات العقل هو أوضح من أن يُطلب عليه البرهان وبذلك عاد الغزالي مدركاً أن: «الأوليات ليست مطلوبة فإنها حاضرة والحاضر إذا طلب نفر واختفى». لقد أدرك بهذه الإشراقة الحدسية الخارقة أن ضروريات العقل هي أساس كل تعقل إنها حقيقة أولية تلقائية وبسبب تلقائية حضورها فإنها تختفي متى طُلبت فالذي يسأل عنها يكون قد غاب عنه حضورها التلقائي الصارخ المباشر لذلك فهي تفر منه وتختفي عنه فالإنسان حين يشك بها يشبه الذي يغمض عينيه ويعصبهما ثم يشكو من عدم قدرتهما على الإبصار لذلك يجب أن يثق الإنسان تلقائياً بأوليات العقل وأن لا يضعها موضع الشك ولا موضع الطلب لأن الإنسان يستمد حضوره منها وليس العكس فإذا طلب حضورها نفرت منه واختفت عنه لأنه لا يسوغ أن توضع موضع الطلب، ولا أن تصير محلاً للشك فإشراق الشمس لا يحتاج إلى دليل فالاشراق هو برهان ذاته ولو استعان الأطباء النفسيون بهذه الفكرة المدهشة لكانت عوناً كبيراً في فهم أسباب بعض أنواع الاكتئاب كالتفكير القهري ولكانوا أقدر على مساعدة بعض المكتئبين لإعادتهم إلى التلقائية التي تمنحهم الأمان والطمأنينة.. إن هذه الفكرة الرائعة والرائدة والعظيمة والفريدة ليس بالإمكان الوصول إيها عن طريق البحث الرتيب مهما طال ومهما كانت دقة المنهج الذي قد يستخدمه الباحث فمثل هذه الأفكار الحاسمة لا يجود بها سوى عقل متوقد يمر بحالة من الاهتمام التلقائي القوي المستغرق... وتتكرر لدى كبار المفكرين حالات انكسار تلقائية الطفولة واستبدالها بتلقائية ممحّصة فأمامنا مثال بارز آخر فالذين قرأوا سيرة الفليسوف الألماني الأكبر عمانوئيل كانط يعرفون أنه أمضى حياته الدراسية كلها مأخوذاً بالوثوق الذي بنته فيه البرمجة التلقائية في الطفولة ورسخته التربية المدرسية الجامدة إنه نفسه يؤكد أنه قد أنهى الدراسة وهو مأسور بالوثوق والدقماتية وبقي كذلك حتى قرأ الفيلسوف الانجليزي ديفيد هيوم والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو فأيقظاه من سباته ونقلاه من مستوى الإخلاد للبرمجة التلقائية إلى مستوى العقل النقدي الذي اشتهر به وبهذا المثال البارز يتأكد عدد من الحقائق منها أن الأذكياء بل العباقرة مثل (كانط) يبقون مستسلمين لبرمجة الطفولة وللتنشئة الثقافية المدرسية الجامدة حتى يُستثاروا أو يصدموا وبهذه الاستثارة وحدها تستيقظ عقولهم وتتحرك الطاقات الكبيرة الكامنة فيهم فيخرجون من قوالب التلقائية الثقافية فتحلق عقولهم في الآفاق ويصبحون رواداً بعد أن كانوا مجرد مرددين لما هو سائد.. كم من ذوي القابليات العبقرية مروا على الدنيا ومضوا من دون أن يقابلوا في حياتهم ما يثيرهم أو يصدمهم ويكسر تلقائيتهم المستسلمة لبرمجة الطفولة، ويحرك الطاقات العبقرية المختبئة في أعماقهم؟!! إنها جناية البرمجة التلقائية التي تملأ القابليات وتجمد القدرات وتستبقي الأذكياء بل وحتى العباقرة مستسلمين لما تبرمجوا به وغارقين بما نشأوا عليه، ومغتبطين بما امتلأت به عقولهم من أوهام مخدرة ومقعدة.. إن هذه هي تلقائية الإنسان التي تجعله في طفولته مفتوح العقل والوجدان والقابليات لأية صياغة مهما كانت من الرداءة والسوء ومهما كانت موغلة في التخريف والجمود وما أن تنفرط هذه التلقائية الثقافية في الكبر في حالات نادرة حتى يقع الإنسان في كرب فظيع لا يبرأ منه حتى يتوصل إلى تلقائية بديلة يقتنع بها ويطمئن إليها.. إن كانط حين قرأ هيوم وروسو قد صدم صدمة قوية مزلزلة أيقظته من تلقائيته فاهتزت البرمجة التي كانت محل وثوقه وموضع غبطته وراح يبحث بنفسه عن الحقيقة وبهذا البحث الجاد المنظم صار واحداً من أشهر وأقدر الفلاسفة على مر التاريخ الإنساني كله فإن الأفراد لا يكونون رواداً أو مبدعين إلا إذا انفكوا من أسْر تلقائية الطفولة ومن أوهام الثقافة السائدة وأعادوا برمجة أنفسهم بأفكار خلاَّقة ومعارف ممحَّصة واهتمامات مستطلعة. إن الفراغ الذي ينتج عن انكسار التلقائية الأولى يستوجب تكثيف البرمجة البديلة حتى درجة التشبع كما لابد أن يعيش الفرد أفكاره الجديدة المكتسبة سلوكاً حياً لتنساب منه هذه الأفكار والمعارف والمهارات انسياباً تلقائياً وبذلك يملك تلقائية ذكية واعية تحققت باختياره واحتشدت في داخله بجهده بدلاً من تلقائية الطفولة العمياء التي تشرَّبها من غير اختيار ولا وعي..