شاهدت قبل سنوات في فيينا معرضا للجثث البشرية (المحنطة بالبلاستيك) جمعها الفنان الألماني جونثر هاجنز من ثلاجات الموتى في أوروبا.. وكانت جميع الجثث ال28 مفتوحة على مصراعيها كي يتاح رؤية ما بدخلها بوضوح - بما في ذلك جثتان لامرأتين في فترة الحمل!! وفي ذلك الوقت (وتحديدا عام 1999) شكل المعرض الذي طاف أوروبا صدمة لعامة الناس بحيث أغمي على البعض في حين تقيأ البعض الآخر من هول الصدمة والقرف.. غير أن الفكرة أصبحت اليوم (كما لاحظت) أمرا شائعا ومقبولا ووسيلة تعليمية مهضومة (كما شاهدت مؤخرا على برنامج أوبرا مع صديقها الدكتور أوز)!! وما يحيرني فعلا أن معرض الجثث المبلمرة (في فيينا) كان يعد وقتها من قبيل الفن المتطرف الذي لم يحض بموافقة معظم الناس.. أما اليوم فيحضى بقبول عام ويعد «راقيا» و»نظيفا» مقارنة بما يبنى عليه هذه الأيام.. فقبل فترة بسيطة مثلا أقيم في باريس معرض للفنان باتريك ساموا يتلاعب بالجثث الحيوانية (بما في ذلك جثتين لبقرة وثور يتضاجعان طوال العرض بفضل عجلتين ميكانيكيتن)!! وهذا المعرض مجرد نموذج ل(شطحات فنية) بدأت أرصدها هذه الأيام وتتخذ من الموتى موضوعا لها تحت ذريعة الفن أو العلم أو تخليد الذكرى. فمن ممارسات «تخليد الذكرى» مثلا تحويل رماد الميت الى «قطعة ألماس» تلبس كخاتم أو قلادة.. فمن المعروف أن الألماس الاصطناعي يصنع بضغط مادة الكربون تحت درجة حرارة عالية. واعتمادا على هذا المبدأ تقوم شركة «لايف جم» في شيكاغو بتحويل رماد الأموات (الذي يتضمن نسبة كبيرة من الكربون العضوي) الى ألماس حقيقي. وأول ألماسات صنعتها الشركة كانت لامرأة توفيت في حادث سيارة فحولتها الى ست ألماسات وزعت خمسا على أقاربها واحتفظت بالسادسة ثمنا للخدمة!! أما في ولاية ميسوري فازدهرت أعمال فنانة تدعى لوسي هاش تتعامل أيضا مع رماد الموتى ولكن بطريقة مختلفة.. فهي تحول رماد الميت الى (رمال ملونة) تستعملها لرسم لوحة جميلة تعلق في المنزل بدل دفنها تحت التراب.. فإحدى الزوجات مثلا طلبت استعمال رماد زوجها لرسم شرفة تطل على البحر (من غرفة حقيقية بفندق المريديان في هاوي).. فطوال أربعين عاما كانت هذه السيدة تنزل مع زوجها في تلك الغرفة وكانا ينظران للبحر من نفس الشرفة - فأرادت تخليد ذكراه بلوحة تحتفظ بالمنظر!! وهذه الممارسات - التي لا أعرف ماذا أسميها - لا تعد جديدة ولا يمكن وصفها ب(البدع الحديثة).. ففي جمهورية التشيك مثلا توجد كنيسة يتشكل أثاثها من عظام الموتى (بما في ذلك الكراسي والنجف وزخارف الأسقف).. فالكراسي مثلا مكونة من مئات القطع المتراصة (لعظمة الفخذ) في حين تتدلى من السقف نجفات مشكلة من عظام الأيدي (تمسك كل واحدة بجمجمة مضاءة من الداخل). وتعود قصة الكنيسة الى عام 1218 حين عاد رئيس الأساقفة من فلسطين وأحضر معه كيس تراب ادعى أخذه من قبر المسيح. وحين وصل الى بلدة سيدلك (حيث توجد الكنيسة) نثر التراب فوق مقبرتها الصغيرة فتحولت الى مقبرة مقدسة بأنظار الناس. وحين انتشر الخبر أصبح كل سكان تشيكيا يفضلون دفن موتاهم في هذه المقبرة حتى فاضت بموتاها. وفي عام 1300 أصبح محتما نبش القبور ونقل الرفات القديمة لإفساح المكان للمتوفين الجدد. وحين اعترض أهالي الأموات وعدتهم الكنيسة بنقل العظام المستخرجة إلى (داخل الكنيسة) واستعمالها بشكل «فني» لائق.. وهكذا استقبلت الكنيسة عبر القرون آلاف القطع العظمية التي حولت الى أعمال فنية أو تماثيل مزخرفة تعد حاليا من تراث العالم الفني (!!!) ألا ليت غرابا جديدا يعلمهم كرامة دفن الموتى..