إن الحديث عن القيادات والرواد وأصحاب الهمم العالية يتجاذبه العديد من المعطيات ويكتنفه الكثير من عناصر التشويق والفخر والاعتزاز، فهو يمثل في حد ذاته صورة مشرقة ملونة بالأمجاد والإنجازات الخالدة، كما يمثل نبراساً يحتذى للقيادات المخلصة ولكل عمل جاد طموح. فشخصية صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، يرحمه الله، ذات أبعاد متعددة، تعكس عظم هذه الشخصية الفذة، التي تسعى للخير والعمل الإنساني. ولعلي أسلط الضوء على جانب مهم من عطاءات فقيد الوطن والأمة، وهو الجانب الثقافي والعلمي. فقد تشكلت معالم تلك الشخصية في كنف ورعاية والده المؤسس الملك عبدالعزيز، طيّب الله ثراه، فتربى على حب العلم والمعرفة ؛ فتعلم القرآن الكريم والعلوم العربية في سنٍ مبكرة وعلى أيدي كبار العلماء آنذاك، وواصل تعليمه وبناء خبراته المتنوعة، مما كان له أثره في حياته العامة وما تولاه من مهام إدارية واجتماعية وعسكرية وسياسية، مدركاً، يرحمه الله، بأن سلاح العلم لا يقل أهمية عن الآلة العسكرية. كان الأمير، يرحمه الله، محباً للقراءة والاطلاع، وعلى الرغم من مشاغله المتعددة ومسؤولياته الهامة والحساسة، وما تنتجه من طوفان المعاملات اليومية، فإنه يولي القراءة عناية خاصة، فالقرآن الكريم له نصيبه اليومي، ثم قراءاته المتنوعة في شتى فنون المعرفة. ورغبة منه، يرحمه الله، في الإحاطة والاطلاع على أكبر عدد ممكن من الإصدارات المحلية والدولية، فهو يطلب باستمرار تزويده بمستخلصات للعديد من تلك الإصدارات، وكان، يرحمه الله، يطلب إحضار نسخة من تلك الإصدارات لقراءتها كاملة. ومن هذا المنطلق، فقد حرص سموه الكريم على دعم المؤلفين سواء كان ذلك من خلال شراء عدد كبير من النسخ وتوزيعها على مختلف القطاعات والمكتبات، أو بتقديم الدعم المادي المباشر للمؤلف بما يضمن له الحصول على أضعاف تكاليف طباعة الكتاب ونشره، وكثيراً ما يوجه سموه، يرحمه الله، بتحمل طباعة الكتب مقدماً، بالنظر إلى مسوَّدة العمل وبعد فسحه من وزارة الثقافة والإعلام. ومما يذكر في هذا الصدد أن سموه، يرحمه الله، أمر بشراء مكتبة خاصة لأحد طلاب العلم والمهتمين بجمع نفائس الكتب من أقطار العالم العربي والإسلامي، وقد ضمت تلك المكتبة أكثر من (60) ألف كتاب مشتملة على عدد كبير من نوادر الكتب والمخطوطات، بعد أن أوفد سموه أمين مكتبته الخاصة وفريقاً من المختصين لدراستها وتقديم تقرير مفصل عنها. وإذا ذُكر الجانب الثقافي من جهود الأمير سلطان، يرحمه الله، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو ذلك العمل الموسوعي الضخم، وهو الموسوعة العربية العالمية التي تعد من الإنجازات الرائدة ذات البعد العالمي، حققته بفضل الله، مبادرة فردية طموحة أدركت ما تعانيه المكتبة العربية من نقص في الأعمال المرجعية الموسوعية الموثقة وما يحتاجه طلاب العلم والثقافة في أرجاء الوطن العربي كافة. صدرت الطبعة الأولى من الموسوعة العربية العالمية سنة 1416ه بتمويل سخي من صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز من خلال مؤسسة سلطان بن عبدالعزيز آل سعود الخيرية. وقد تلا ذلك إصدار الطبعة الثانية سنة 1419ه. وفي مواكبة للتحول الرقمي الذي يشهده العالم في مصادر المعرفة، فقد تم تدشين الموقع الخاص بالموسوعة على الإنترنت، ليكون بوابة رقمية تشتمل على جميع أجزاء الموسوعة التي تتألف من ثلاثين جزءًا في جميع العلوم والفنون، والتي تمثل (150) ألف مادة بحثية، و(20) ألف صورة وخريطة وإيضاح وجدول، (500) لقطة فيديو ومقطع صوتي، كما زودت الموسوعة الرقمية بمعجم لغوي عربي-انجليزي-عربي. وقد شارك في إثرائها بالمقالات العلمية أكثر من ألف عالم وباحث وفني ومستشار. وأثمرت حصيلة تلك الجهود عن مرجع لا غنى عنه للطالب والباحث في عصر تقنية المعلومات. وقد أشاد بهذا العمل نخبة من التربويين والخبراء والمتخصصين في البلاد العربية وخارجها، حيث قال عنها الدكتور عصمت عبدالمجيد، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية: "الموسوعة إنجاز حضاري عظيم ومبادرة عربية أصيلة"، أما فدريكو مايور، المدير العام السابق لمنظمة اليونيسكو فقال: "إن إصدار هذه الموسوعة يؤكد أن العالم العربي والإسلامي يستطيع أن ينجز عملاً يضاهي كبرى الموسوعات العالمية المعاصرة"، ووصفها وليم ريتشارد ديل، رئيس تحرير دائرة المعارف العالمية، بأنها إنجاز علمي فريد في تاريخ اللغة العربية. فالأمل والرجاء أن تستمر هذه الموسوعة في الصدور والتحديث من خلال جهة علمية مختصة تقوم بالإشراف على هذا العمل العلمي النبيل ومتابعة إصداره ونشره، فهو صدقة جارية يصل أجرها لصاحبها إلى يوم الدين. أما المشروع الذي لايقل أهمية عن الموسوعة فهو مشروع "الكتب العالمية عن الإسلام والمملكة العربية السعودية" الذي شارك في إعداده أكثر من (73) باحثاً ومفكراً وسياسياً من داخل المملكة وخارجها، وتم تدشين النسخة العربية منه في الخامس عشر من ربيع الأول 1429ه، وقد حظي المشروع بدعم سخي من صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، يرحمه الله، لإعداد مادته العلمية بثلاث لغات هي العربية والإنجليزية والفرنسية، بحيث تشكل في مجملها رسالة ثقافية حضارية لتلاقي الحضارات، وترسيخ قيم الحوار بين أتباع الديانات السماوية، وتصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة عن الإسلام والمملكة العربية السعودية، كما يقدم المشروع تعريفاً بمواقف المملكة تجاه عدد من القضايا التي تشغل الرأي العام الغربي وفي مقدمتها قضايا الإرهاب ووضع المرأة في المجتمعات الإسلامية والمجتمع السعودي على وجه الخصوص، وطبيعة النظام السياسي في المملكة العربية السعودية. ويضم هذا المشروع إصدارات تغطي معظم جوانب هذه الرسالة الثقافية والحضارية منها (المرأة في السعودية.. رؤى عالمية) و(النظام السياسي للسعودية.. رؤية شرعية) و(الإصلاح المجتمعي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية) و(علاقات الكبار . . النبي محمد يقدم أخاه المسيح للبشرية..) و(المملكة العربية السعودية في مائة سؤال) و(المملكة العربية السعودية بعيون زوجة دبلوماسي) للكاتبة أيلفيرا أراسلي و(خطاب إلى الغرب.. رؤية من السعودية) و(السعوديون والإرهاب.. رؤى عالمية) . ومن جانب آخر امتاز الأمير سلطان يرحمه الله بدعمه غير المسبوق للكراسي والبرامج العلمية في داخل المملكة وخارجها وذلك تحقيقاً لهدف سام سعى اليه رحمه الله، وهو الارتقاء بالبحث العلمي في المجالات كافة، الأمر الذي يدفع بعجلة التنمية والتقدم ورفاهية المواطن. ولقد تعددت المجالات العلمية والفنية والتطبيقية للكراسي العلمية التي أسسها وموَّلها الراحل يرحمه الله، والتي تجاوز عددها (16) كرسياً، وذلك حرصاً على شمولية الدعم وإدراكاً لأهمية الدور الذي تؤديه تلك الكراسي وسرعة الإنجاز، فمن هذه الكراسي ما يتناول تقنية الاتصالات والمعلومات، وما يتناول هندسة البيئة، ومجال البيئة والحياة الفطرية ، وكذلك الدراسات الإسلامية المعاصرة، وذوي الاحتياجات الخاصة، والأقليات الإسلامية، وامتد العطاء المتدفق إلى خارج البلاد لتعليم الدراسات العربية والإسلامية بجامعة بركلي بولاية كاليفورنيا الأمريكية، وكذلك لدعم اللغة العربية في منظمة اليونسكو. أسأل الله العلي القدير أن يتغمد الفقيد برحمته الواسعة وأن يجزل له المثوبة والأجر إنه جواد كريم.