كأن صفاء خلف، الشاعر والناقد العراقي، يقول في كتابه «أقنعة القصب» (دار ميزوبوتاميا 2012) أن قصيدة النثر في العراق لن تفلح، أبداً، في التحرر من الرقيب. كأنه يخيب الظن في احتمال قيام نص من دون أقنعة. فالأقنعة، تلك التي رصدها الكتاب، أقنعة خائنة، تتماهى مع السلطة، أي سلطة، وتخلق هويات جديدة في قطيعة مع السياق الحضاري للشعر. ويعرّف صفاء كتابه بأنه «قراءة نقدية لتجارب عراقية في قصيدة النثر يأخذ قيمته من كونه اشتغالاً لم يعمل على المشهد، بل على الحاشية، رصد أقنعة متوارية في النص وسايكولوجيا صاحب النص، واستثمره في الكشف عن مرجعياته وصولاً إلى العقد الشخصية الملقاة على النص». الكتاب يرصد «المسكوت» في شعر «القتيل» محمود البريكان، و «الاختفاء خلف الذاكرة» عند باسم فرات، و «اللعب بالرمزية» في نصوص عادل مردان، و «تغريب الذات» كتورية ل «كراهية العالم» في شعر علي النجدي. بيد أنه يعاين تجربة الشاعر عبد الباقي فرج الذي تمكن في مجموعتين شعريتين من قتل القناع ومن قبلها السلطة المخفية. ذلك أنه استعمل في الثانية أسماً صريحاً، بعد أن كان يتوارى خلف شخصية مستعارة في الأولى. المفارقة الشعرية، وقد أتى عليها كتاب صفاء كثيراً، أن الرقيب «الخارجي» لا يبذل جهداً كبيراً في حصار النصوص، لا يجتهد في امتحان لغوي عن الدلالة والمعنى، ليكتشف نثراً ثائراً عارياً. هذا الرقيب صار عاطلاً من العمل. فسمعته، مخيفاً قاتلاً نافياً، تكفي النص وصاحبه، أن يحتسب، أيما احتساب، في خياله أن يهدأ. في أقنعته أن تلد وتلد ما يكفي للاختفاء. هكذا يكون الرقيب الداخلي أكثر نشاطاً وحيوية. والقصائد المرصودة في كتاب «أقنعة القصب» تفضح رقيباً جباراً يكتب القصيدة مع شاعرها. صفاء خلف، مثل غيره من الباحثين، يحاول التنقيب عما أنتجه القمع، وتعدد الرقباء، والاستسلام لشاعر «داخلي»، شريك دائم بذريعة ذاتية وموضوعية: «لم تكن تلك الأقنعة مصنوعة لمواجهة السلطة وحملاتها التفتيشية في الكتابة فحسب، بل أضحت جزءاً من سايكولوجيا الكتابة والاشتغال والتفكير، لأن حقيقة القمع وسلطة الرقيب، تعمقت في ذات النص العراقي وتجذرت فيه لا وعياً فصارت آلية يرتكبها النص بحد ذاته بفعل الخوف المتوطن». (من المقدمة) كم هائل من الأقنعة... كم هائل من الشعر المكتوب تحت تهديد السوط المتخيل، أو المعاش. ويبدو أن من يراجع النص العراقي، وهو يضج بالمقموع والمسكوت عنه، عليه الانتظار طويلاً حتى يعثر على نص نزيه، نص من دون عقد. يبرر صفاء بحثه عن الأقنعة بأن «المحلي العراقي محرم في الكتابة طيلة عقود نتيجة القمع السياسي ورؤية السلطة لأدب يشتغل على التعبئة والحكوماتية». ويستعمل في تبريره هذا لغة كانت شائعة لدى جيل التسعينات: «الاقتراب من المحلي هو اقتراب مؤكد من موت محقق، لأن المحلي حينها – كما الآن – يضج بمشاهد يشتغل عليها الأدب باعتبارها مخيالاً قاسياً لصورة الحياة». وليس على غرار صفاء خلف، فأن نقاداً عراقيين يعاينون المقموع وأقنعته على أنه دهاء ونضال ضد السلطة. وكان الناقد والمترجم العراقي فاضل ثامر كتب في دراسة نشرت عام 2005 تحت عنوان «أجيال الحداثة الشعرية» أن «جيل التسعينات (مثلاً) عانى الكثير وتحمل المزيد من المعاناة والتمزق والألم. وكان الشاعر التسعيني يعبر أحياناً عن رفضه للحرب والدمار ولسياسة النظام الاستبدادي بصورة غير مباشرة أو عن طريق الرمز والصمت، وأحياناً من خلال البحث عن فضاءات نظيفة لا تلوثها محرقة الحرب والحصار والتعسف». ومن يقرأ «أقنعة القصب» يكون على قناعة أكثر بأن مواجهة السلطة بالرمزية وطنت الخوف منها. ولو رحلت السلطة لبقيت سلطات قاسية في ذات الشاعر. وهنا مناسبة لدراسة الأثر النفسي للقمع. النص المقموع، أول مرة، سيكون مقموعاً، تالياً، من تلقاء شاعره. ويتحول النص الشعري، كما يُظهرُ صفاء في تنقيبه عن الأقنعة، إلى مختبر نفسي لاكتشاف المزيد من الأقنعة. وصار الشاعر فيه مسكوناً باللغة محافظاً شديداً على قيودها، بل ويزيدها قيوداً. لقد أستغرق شعراء عراقيون شعرهم في صناعة الرموز، وإجادة الاختفاء وراء المستعار. ولهذا يحاول الكاتب «فهم مسلمات الانتماء إلى الشعر والعالم عبر جدلية مفترضة. ويفترض وجهة نظر الشاعر أنسي الحاج لكونه أشتغل على كسر الأقنعة عبر كسر اللغة الشعرية». وفي بعض النصوص يجد الناقدُ الشاعرَ متذوقاً للأقنعة، محدثاً لها. ثمة شعور بأن النص العراقي، مما ينطبق عليه حكم القناع، صار «مازوخياً»، يستدرج شعره وخياله إلى منطقة فيها سلطات يستجيب لمحرماتها. صفاء خلف يأتي على هذا ويرى أن «المغيب في الكتابة هو المادة الاشتغالية الحقيقية، صارت الأقنعة تلعب دور الوجوه والأسماء والأفعال، فهي أقنعة حفلة تنكرية مستمرة تحتم على النص العراقي أن يدخر منها الكثير في غرفة خياله المعطل لصالح الرمزية، لخداع الرقيب السلطوي الشرس». يتوقف من يقرأ «أقنعة» صفاء استدراكه في «كما الآن» حين يصف مبررات الرمزية في الشعر العراقي، ويحيله إلى أن أسباب النص المقنع في السرد العراقي وفيرة وقائمة. وهو ما أفصح عنه الكتاب لاحقاً: «ما زال الرقيب حياً في النص العراقي، يشتغل من دون رادع بفعل التعود. أصبح نصاً مقنعاً، يتوارى وراء الأفعال». لكنّ ما يجدر الانتباه إليه أن ملاحظة صفاء خلف عن استمرارية النثر بالقناع لم تأت مع نصوص حاضرة، فما راجعه في كتابه كان منجزاً يعود إلى أيام «الرقيب الخارجي». وقوله أن «الآن» الشعر متورط بأفعال وأسماء للتورية كان عليها أن تقترن بدراسة نماذج لها في شعر ما بعد 2003.