عندما تطلب الملايين لعتق رقبة، وصولاً إلى العشرين مليوناً، فتلك تجارة صريحة ومبتذلة. وللأسف انها لا تجد موقفاً شرعياً حازماً يمنعها، ولا حراكاً من رجال الدين تجاهها. في هذا الملف أشياء كثيرة سيئة، منها استغلال الدين في عملية تجارية مبتذلة، ومنها السطو على مشاعر الناس في حبهم لفعل الخير، ومنها بذل ملايين الريالات في غير محلها، لأجل عتق مجرمين، وكل سيئة من هذه السيئات أسوأ من الأخرى. عاطفة الناس جياشة تجاه عمل الخير، ومستعدة لبذل الغالي والنفيس، وأهل الدم من المجتمع وعلى دراية بطبيعة أهله، وعلى ثقة تامة أن أي مبلغ يطلبونه سيتوفر حتماً، مع تركهم هامشاً من الملايين للمساومة، مثل أي بائع سلعة، يبدأ من العشرة، ومستعد للبيع عند الخمسة! قبل نحو ثلاثة أعوام صدرت موافقة الملك على توصيات لجنة حكومية مشكلة من جهات عدة، حول دراسة ظاهرة المبالغة في الصلح في قضايا القتل. التوصيات لم تدخل إلى صلب الأزمة. كانت حول آلية جمع الأموال، وليس رقمها المبالغ فيه. فقد ركزت على منع إقامة الخيم لجمع التبرعات؛ والسبب الأمني جلي، إذ يخشى من تحول الأموال إلى مسارات أخرى ممنوعة؛ الإرهاب مثلاً. وكذلك دعت إلى تعميم تجربة لجان إصلاح ذات البين على بقية المناطق. لكنها لم تقرر شيئاً حيال القضية الرئيسة، وهي عنوان عمل اللجنة (دراسة ظاهرة المبالغة في الصلح في قضايا القتل). فقط، كانت هناك إشارة إلى أن الأمر السامي، الذي صدر عند تشكيل اللجنة، إذ عدّ المبلغ، الذي يتجاوز الخمسمائة ألف ريال مقابل العفو عن القصاص، مبالغاً فيه. وانتهت اللجنة بلا موقف تجاه العملية التجارية المبتذلة. معلوم أن السلطة التنفيذية، وهي هنا المؤسسات الحكومية المشاركة في اللجنة، غير قادرة على الدفع بقرار ديني شرعي، فهذا من صلب المؤسسة الدينية، وهي هنا بالدرجة الأولى، هيئة كبار العلماء، التي بمقدورها النظر بجدية في الموضوع، والقول بما تقوله الشريعة، لذا كان موقف البيان الرسمي دقيقاً وحذراً بعدم وضعه تسعيرة لعتق الرقبة، ولكنه كشف عن رأي وامتعاض من المتاجرة. فشريعتنا الدينية السمحاء لا تسمح بنفاذ المتاجرين بها، وتقطع عليهم الطريق، ولا تمكنهم من التكسب المادي وغيره باسم الدين، لذا يبقى الموضوع عند هيئة كبار العلماء أولاً، لدراسة هذه الظاهرة جدياً، والخروج بقرار حازم، يكون تطبيقه ملزماً، ويوقف العملية التجارية، التي هي أشد خطورة من الانشغال بربوية البنوك والمعاملات المالية، فهي ربوية الدماء والأنفس.