المقاومة العظيمة هي مقاومة العدوان على الانسان - أياً كان هذا الانسان - واستعادة حضوره الانساني في معركة التحرير والبناء. أما مقاومة تفصل على مقاس مصالح الطائفة - أياً كانت هذه الطائفة - وتحالفات الانظمة فهي تفقد مشروعيتها وتفتت قوتها وتمكّن لأعدائها. لا أعتقد أن ثمة حالة فرز حادة وصادمة مرت بالطيف السياسي في المنطقة العربية والتي يعبر عنها مثقفون وناشطون وحزبيون ومناضلون سابقون.... كما حدث منذ أن اشتعلت الانتفاضة الشعبية في سورية .. وكلما تفاقمت الاحداث وتطورت التداعيات الداخلية والاقليمية والدولية تجاه هذا الوضع.. اتضحت مواقع الفرز أكثر. هذا الحديث لا يعني أولئك الذين يوظفون مهاراتهم في تزوير المشهد - من واقع المشاركة الفعلية في غنائم وعطايا الاستبداد - وحشد الارباك وتغييب الرؤية الانسانية دفاعا عن نظام يواجه شعبه بالرصاص والراجمات والقذائف والشبيحة والمرتزقة وكل أدوات الادماء والتعذيب والقتل.. إنه يتوجه إلى اولئك الذين لا نشك انهم بلا توظيف يعمل ضمن دوائر الاستبداد او خطاب دعم النظام في مواجهة الشعب المقتول والمدمى والجريح... إنهم اولئك الذين مازالوا متوقفين عند حدود صراع وكأنه لا ملامح له سوى هجمة استعمارية جديدة تريد ان تأخذ المنطقة رهينة عقود، لتعيد رسم ملامح منطقة خالية من الممانعة والمقاومة لإسرائيل ولتضع مصالحها في قبضة نظام جديد يأتي على رافعة الديمقراطية المزيفة وتحت غطاء حلف الاطلسي وتحت عين الغرب المتربص بثورات العرب!!. الخطاب يتوجه إلى اولئك الذين يحملون من مشاعر العروبة عناوينها الكبرى، ومن قضية العرب المركزية ممانعة ومقاومة للكيان الاسرائيلي هدفا رئيسيا، ومن منظومة كلما اقتربت من حق الانسان بالحرية والكرامة تراجعت أشواطا تحت إيحاءات المشاريع الاستعمارية الجديدة ونوايا الناتو وأبعاد المؤامرة على قلب العروبة النابض بالاسى والخوف!!. يستعيد كثير من هؤلاء المسألة العراقية، وكأنها النموذج الذي لا حيدة عنه ولا مجال لتجاوزه. ورغم التنديد بالاحتلال الامريكي للعراق ورفضه من منطق انه محاولة لرسم ملامح فوقية لنظام غير مستجيب، فالبيئة التي استولى فيها الاحتلال على رأس النظام لم تكن تحمل سوى مطامح الطوائف وصراعات الاضداد في مجال حساباته لا ترقى لبناء وطن. إنها حسابات طوائف ومكتسبات عشائر من كل نوع ونحلة وقومية مكّن لها هذا الاحتلال. إلا أن الحالة العراقية التي يستشهدون بها لا تخدم مذهبهم في مطلب الحرية والتغيير... فلم يكن للحالة العراقية أن تصل الى ما وصلت اليه لولا أن نظاما قمعيا وطأ جباه العراقيين لعقود .. وساق مليون عراقي لحتفه في مواجهة غير محسوبة مع ايران، وابتلع الكويت في ليلة ليلاء، وقدم العراق مرتهنا، ليس في عام 2003 عندما سقطت بغداد تحت جنازير دبابات المارينز، إنما منذ صيف عام 1990... ليسقط أخيرا ثمرة يانعة في قبضة مليشيات الطوائف. إن ما حدث في العراق لم يكن سوى من صنع نظام قمعي استئثاري جعل النظام الزعيم المهيب وأبناءه وأزلامه وأصنامه كل شيء في العراق. لقد كانت جريرة النظام هي من اسقط العراق وقدمه لقمة سائغة في فم الاحتلال وفم مليشيات الطوائف. ولا ضمانة أيضا أن تأخذ التطورات الوضع السوري في حال سقوطه - بعد هذه الممارسات القمعية الدموية التي لا مثيل لها - الى حالة مقلقة بسبب تداعيات البيئة الداخلية التي تحمل ايضا إمكانية إثارة نزعات الطوائف والاقليات وهي تتقاسم إرث نظام لم يخلف سوى المعتقلات والخراب الكبير. السؤال الذي يجب أن يطرح - مع الاعتراف بهذه المخاوف - هل يرى أولئك انبلاج فجر جديد من براثن نظم عرفتها المنطقة طيلة عقود، لم تقدم فيها سوى البؤس والاحباط والاسى والفقر والقهر .. هل ثمة مستقبل لنظام من هذا النوع .. وماذا يعني الوطن حينها هل يرونه وطنا أم كابوسا؟ اننا امام حالة مستعصية لنظام لا يريد ان يقدم ما يمكن أن يوثق به لاستعادة وطن من براثن الاحتلال الداخلي المقيم .. هناك احتلال أعظم وأفدح وأقسى حتى من الاستعمار الذي خبرته الشعوب العربية وقاومته واجبرته على الرحيل.. إنه نظام وضع شعبه بين خيارات قاتلة.. خياره أن تقبل أن يجهز عليك أو تجهز على نفسك بالصمت والموت البطيء. ما هو السياق الذي يمكن ان تنتظم فيه رؤية انسانية اخلاقية تحمل قبل أي شيء آخر ملامح الانسان لا بقايا بواعث الايديولوجيا، وليست رهينة وعي مخضب بخطب شعارات لم يتجاوزها منذ الستينيات... هل نملك الشجاعة لنقول "الإنسان أولا". فبعض المخاوف أكثر فداحة من الحقائق ذاتها. وكثير من المخاوف تجلب التوقف المريع حد الموت البطيء. وربما من حسن الحظ أن مخاوف اولئك أو مواقفهم لن تغير واقع الحال اليوم، ولا بكاؤهم على لبن عروبة النظام المسكوب سيُسكت شفاها تتلمظ عطشا للحرية. أما تلك الذريعة التي بدأت تفقد فعلا مشروعيتها في زمن أصبحت فيه ممانعة قهر الداخل واستبداده وظلمه هي مصدر الحراك وعلته.. فهي مسألة الممانعة. فمن يقوى على ممانعة اسرائيل؟ ألم تُستخدم القضية الفلسطينية عقودا لتقوية كيان النظام وإغلاق فم الحريات وصناعة المزيد من اسوار العزلة عن رياح التغيير؟! ماهي المشروعية التي يُبنى عليها خطاب ممانعة لا يتجاوز بناء تحالفات آنية لا هدف لها سوى بقاء النظام وهيمنته وحمايته.؟ وحتى لو كان ثمة ممانعة على النحو الذي يبرع البعض في ترويجه فهي جزء من تحالفات تعمل لصالح النظام لا صالح مشروع استعادة أرض محتلة او مواجهة تبعات قضم فلسطين قطعة قطعة. إنها ممانعة التحالفات التكتيكية، حيث قابلية الهدم والقضم والنقض. أما مقاومة حزب الله فمهما كانت تضحيات الحزب والمقاومة في لبنان في مواجهة الكيان الاسرائيلي فقد ظهرت أنها مقاومة ضمن اجندة وتحالفات يتضاءل فيها موقع الإنسان العربي المقموع.. الذي يطالب اليوم بتحريره أولا. ماذا يمكن ان نقول عن مستقبل مقاومة تقدم مصالحها على مبادئ كبرى لايمكن تجاوزها في أي فعل مقاوم؟ من يريد تحرير الارض عليه ان يحرر الانسان أولا من عبودية النظم وقمع الاجهزة وقهر عصابات النظام... من يريد ان يبحث عن مشروعية تشكل فيها المقاومة جسدَ ونبض الشارع عليه ان يكون رهانه على الشارع الذي خرج مطالبا بحقوق لايمكن تجاوزها، أما ترويج وجهة نظر النظام في ممانعة الشعب، والتغاضي عن كل تلك الانتهاكات وربما المشاركة في دعمها... فهذا لن ينطوي عليه سوى هز أركان تلك المقاومة... بل ربما حتى مقاومتها. المقاومة العظيمة هي مقاومة العدوان على الانسان أيا كان هذا الانسان، واستعادة حضوره الانساني في معركة التحرير والبناء. أما مقاومة تفصل على مقاس مصالح الطائفة - أيا كانت هذه الطائفة - وتحالفات الانظمة فهي تفقد مشروعيتها وتفتت قوتها وتمكّن لأعدائها. إن الذين يعتقدون ان هذه الشعوب التي ثارت لكرامتها وحقها بالحياة، ستنتج انظمة تهادن الكيان الاسرائيلي او تقبل بوجوده واهمون. إن اسرائيل لا تخشى اليوم اكثر من ثورات الحرية على مستقبلها. إنها تعيش حالة اضطراب غير مسبوقة وهي تعيد قراءة مشهد لا يعطيها فرصة لالتقاط أنفاسها.. كما أن من المبالغة اذا لم يكن من الوهم، أن يُعتقد ان هذا الغرب - الذي يعبر عنه موقف دولي بطيء الاستجابة - يفضل تغييرا لا يضمن نتائجه لواقع يدرك حسابات ومقتضيات بقائه. إلا انه عندما تصل الأوضاع الى مرحلة حرجة، فهو لن يتردد في البحث عن موقع قدم في تحولات فاجأته ولم تُصنع على عينه. الشعب العربي يحمل إرثا تاريخيا وثقافيا مقاوما وما ان يستعيد وطنه من قبضة جلاديه سيعرف حتما كيف يصنع فعلا مقاوما يتجاوز دعايات نظم الفساد والاستبداد. المقهور والأسير لايمكن ان ينتجا فعلا مقاوما حقيقيا، إنهما رهينة سيدهما الذي اعتمد على وسائل الاخضاع والسيطرة حتى قضى على قواهما وقدرتهما على التفكير والتعبير وقدرتهما على التفاعل مع قضايا أمتهما ووطنهما، وقدرتهما على بناء منظومة تستجيب لوعي آخر يتجاوز وعي نظم التوقف والاملاق الكبير.