الطرق ممتعة بتموجاتها وعبورها بين جبال الزيته في صحراء تبوك ،تلك التي تتشكل بحيوية وكأنها في حالة حركة مستمرة ، تفاصيلها وتباعدها في بعض الجهات ؛ تترك الرمال تتخللها بهدوء وحكمة ، السيارات الأخرى التي تحمل الخيام والحطب تتأخر لانشغال سائقيها بالتصوير ، بينما الحديث يتقافز بيني وبين مرافقي في السيارة كالكرات المطاطية . انظر ، هذا الطريق الذي يتجه شمالاً يؤدي إلى منطقة (علقان ) وهي منطقة بين "وادي رم والزيته "، الحياة فيها تتناغم بإيقاعها مع كثافة شجر الرمث الذي يغمرها بدفء رائحة استثنائية ، قال ذلك رفيقي ، وسألني بسرعة وهو يلتفت صوب سيارة كانت تقف على جانب الطريق ويرفع سائقها يده مشيراً إلى البروق التي تتقاطع مع صمت الجهة الشرقية : منذ أشهر وأنت تطرح حديثك عن الإبداع ، أو القدرات الإبداعية الخارقة .. وفي كل مرة تفتح حواراً لا يكاد ينتهي ، فما الذي تقرؤه مختلفاً هذه المرة؟ دائماً أتساءل يا صديقي ... هل الإبداع حالة أم عملية؟ وهل يمكن أن نقول إنه خروج عن الوعي التقليدي؟ نعم هذا ما كنت أقوله قبل سنوات في اللحظة التي كنت فيها سجيناً في قفص العقل وتموجاته وأوهامه". وأردد الآن مع التحفّظ الشديد ما يطرحه الفيلسوف جليفورد الذي عرفه بقوله "الإبداع عملية معقدة تمتاز بالطلاقة والمرونة والأصالة والتألق" ثم لفولك الذي قال: "هو قدرة الفرد على الابتكار أو على خلق نتاجات تتسم بالأصالة والبراعة أو وضع حلول للمشاكل". وعلينا أن نفرّق بين العقل كأداة وبين الحالة الإبداعية التي يشترك بها الوجدان والعقل والحدس وندرك أن الخروج على المألوف يبعد العقل عن شروطه وأنماطه وحالته المعرفية التي فرضها التعليم والمجتمع، وأن القصد في الإبداع والذهنية العالية والمعرفة تشوّه الإبداع وتحد من حيويته وحريته وربما تكون عائقاً أمام حضوره".والإبداع ليس ظاهرة منطقية ، إنه صورة من الحياة ، تلك التي لا تخضع لاعتبارات العقل وأوهامه ، فقد يكون المفكّر منطقياً ، ولكن المبدع بعيد عن ذلك كونه يتأمل ويبدع من خلال حدسه وروحه وليس من خلال نظرته المنطقية للعالم. صمت صديقي بينما الرياح الخفيفة تتحرك بدوران حيناً وبخطوط متعرجة في كثير من الأحيان ، المشهد الجبلي يساعدنا على المزيد من الكلام ، ويعيدنا إلى عمق الرؤية ، ونحن نتقاسم ملامح الإبداع وأسراره المتداخلة !