في هذه الفترة الانتقالية، باعتبارها تضعنا في قلب فعالية القرن الواحد والعشرين، التي تتبدل فيها الأفكار والقيم والمبادئ ما يؤثر على الأبعاد الجديدة التي تتخذها أية حضارة بوصفها نتاج الثقافة البشرية لتطوير مسيرتها عبر الإنتاج الداعم لتطلعات أفرادها من المبدعين والمخترعين ومن يوازيهم. وإذا عاينا المسألة الفنية في عنصرها الأولي وهو الأغنية، ولعلنا نخلص يوماً من هذا المصطلح المستنفد، سنجد أن العمل الفني أو الغنائي رهن مسارين في وقتنا الحالي: - تحقير الإنتاج الفني الحالي بالاستهلاكية والتكرارية والتسلوية. - اعتبار الفن السابق أو القديم أنه الذهبي أو الإبداع الوحيد!. وإذا أردنا تحليل المسار الأول فهو يقصر الإنتاج الفني في وظيفة واحدة، وهذا بالتأكيد يغفل تجارب مضادة ومهملة بشكل مقصود أو عن جهل وحماقة، غير أن ما يثبت هنا هو الاعتماد على التجربة الحسية في صورتها الأولية وإطباق أي نص يماثله لحن لهذه الحالة لتغدو في صور الحب السطحية أو الجنس المكبوت. بقدر ما تشكل حالة تنفسية للألم أو تهوين الصعوبات النفسية إلا أنها لا تقاوم الزمن في البقاء والشواهد غير بعيدة منذ عقدين.. ومن هنا نكشف أن الحالة الوظيفية للفن لا يمكن قصرها على حالة شعورية أو حاجة غريزية عند الإنسان فحاجات الإنسان إلى الجمال تستدعي اكتشاف ما يتخطى اقتصارها على الوظيفة التنفيسية أو التهوينية. وأما المسار الثاني، الذي عند كثيرين من الفنانين أنفسهم ذوي الأهداف الحائرة أو المستمعين ذوي الاختيارات التائهة، الذي يرى في الماضي صورة واهمة باعتباره الجمال المطلق والروعة الدائمة بينما يتناسى أنه لا يمكن إصدار هذا الحكم التعسفي الذي تغيب عنه أبسط أدوات القراءة المنهجية والاستحضار الزمني، وتحليل فعالية الإنتاج الفني وتحولاته وعلائقه بما سبقه وما قدمه. إنه بكل بساطة ماض جميل حسب ما يرى الواهم ليس لأنه جميل بل لأنه لم يكن زمنه! كما يرى القديس أوغسطين. وهنا يسقط، بكثير من الاستهتار، المكاسب المعرفية والخبرات الذوقية، التي من الممكن أن تثري الإمكانات المتاحة في زمنه المعاصر. فإن تحقير الفن الموجود أو المعاصر وإنما مغاير للسائد والمنتشر إعلامياً، وهو يحمل جودته وقيمته، هو تهديد مباشر للموهبة البشرية ودورها الثقافي وبعدها الحضاري. وينطرح هنا دور المؤسسة التعليمية قبل الثقافية، فهل المدرسة تقدم الجهل الجديد؟ وهل الجامعات والمعاهد تخطط لإفقاد الذاكرة؟. ولعل هذا يدفعنا إلى الإقرار بجملة صادمة –بعيداً عن صورة جلد الذات الانفعالية- "أي شيء أكثر احتقاراً من احتقار معرفة الذات؟" كما رأى التربوي جان سالزبوري أو جملة أخرى "ما هو أشد احتقاراً، بالفعل، من حضارة تحتقر معرفة نفسها؟" لجان سول. ربما سأتذكر عنوان مقالة صارخ للمفكر عبدالله القصيمي "أمية العيون العربية" لأقول –بعد تحويلها- إنها "أمية الأذن الجديدة"، ولا يخفى عنا دور الثقافة في كونها تحدد تطور المجتمعات قبل أي شيء، قبل أنماط الإنتاج، أو الأنظمة السياسية بكثير، فلا يبنى الاقتصاد والسياسة إلا على الثقافة. ربما نتحدث في مقالة لاحقة عن الأغنية البديلة المجهولة والمضادة لأغنية الاستهلاك والزمن الذهبي!.