تضج ساحات السجال الشعبية العربية بالمخاوف والهواجس، على خلفية ما يحدث في الإقليم العربي المشتعل، بعد أن عاد هذا الإقليم إلى التحول من جديد إلى "ساحات.."، وأي ساحات. فبين هواجس "عودة الاستعمار.." من جديد، وإن بأشكال مختلفة، والتي تغذيها أكثر من حالة عربية، وبين الطغيان المحلي، الذي أحال الأوطان العربية، واستمرارية العيش فيه، إلى "جهنمات"، تمارس الغالبية الشعبية العربية قلقها المشروع، ومخاوفها المبررة، سيراً حثيثاً على "حافة سيف" متحرك..!؟ الباب، كفكرة، وكنمط عيش، هو الفاصل بين الإنسان وحريته وخصوصيته وبين الآخر، سواء كان حارة أو مجتمعاً أو دولة. فالأسوار والنوافذ والأبواب وغيرها، ما تزال هي الشكل الذي اختاره الإنسان للإطلال على الآخرين، أو لإطلالة الآخرين عليه بشكل مشروع ولتلك الهواجس العربية جذورها، في راسب الثقافة العربية العميق. فحين تم عرض الجزء الأول، من الدراما السورية "باب الحارة"، كنت واحداً من الذين استغربوا الاسم كثيراً. أما عندما تم الاعلان عن بدء إنتاج الجزء الثاني منه، وتحت نفس الاسم، فقد قدرت أن المعالجة الدرامية ستنحو باتجاه تطوير القصة التراثية، وربطها مع المتغيرات الحاضرة، في العالم والمنطقة العربية. وذلك من خلال تطوير فكرة "الباب" كحاجز يقي الحارة، من المخاطر القادمة من خارجها، وما رافق ذلك من متغيرات حديثة، جعلت من وضع الجدران والأبواب والحواجز، بين المجتمعات والحارات والدول، غير كاف لحمايتها. فالمتغيرات العالمية، أثبتت أن الثقافة الداخلية للمجتمعات، وقدرتها على الانفتاح على ثقافات الآخرين، هي أفضل تحصين لتماسكها. وأن التطور الحقيقي للمجتمعات لا يمكن أن يتم إلا من داخلها، وعلى شكل حركة تفاعل بطيئة، تشمل تفاصيل هائلة من القيم والأخلاق والعادات والسلوكيات، هي ذاتها ما يشكل النسيج المجتمعي، في علاقات الناس اليومية. وللأسف، فإن ذلك لم يحدث، لا في الجزء الثاني من الدراما المقصودة، ولا في غيرها من الأجزاء التي تلت. إذ بدا واضحاً أن ذلك لم يكن في وارد كاتب السيناريو او المخرج، وان الأمر لا يتعدى إعادة إنتاج، وتصوير، شخصيات نمطية، اندثرت نسبياً من الحياة اليومية العربية، وما يرافق ذلك من استثارة مخزون الحنين لما مضى، عند المشاهد العربي. وللحق، فالباب، كفكرة، وكنمط عيش، هو الفاصل بين الإنسان وحريته وخصوصيته وبين الآخر، سواء كان حارة أو مجتمعاً أو دولة. فالأسوار والنوافذ والأبواب وغيرها، ما تزال هي الشكل الذي اختاره الإنسان للإطلال على الآخرين، أو لإطلالة الآخرين عليه بشكل مشروع. وتتنوع الأبواب الحاجزة بين الذات الفردية أو الجماعية وبين الآخر، فمنها: باب الغرفة، باب البيت، أبواب المعابد، أبواب المقابر، أبواب المدن، المعابر الحدودية (أبواب الدول)، المرافئ (أبواب البحر على الدول)، المطارات (أبواب السماء على الدول)، أبواب القلاع القديمة، وغيرها الكثير. وقد تنوعت المدينة العربية، عبر تاريخها الطويل، في إنشاء وتسميات أبوابها، التي تسمح بالإطلال المشروع للخارج عليها. وقد كان ذلك مصدر اعتزاز للمدن، على مر التاريخ، بمناعة أسوارها وأبوابها، وكلنا يذكر الخطاب الذبيح، للرئيس العراقي الأسبق، أثناء الاقتحام الأمريكي للعراق، قبل نحو ثمانية أعوام، بأن "الغزاة سينتحرون على أسوار بغداد..". بل ولعل مفردة "العلوج"، التي استخدمها وزير الإعلام العراقي الأسبق، "محمد سعيد الصحاف"، في وصفه للغزاة الأميركيين، شكلت أبلغ استعارة محمومة من التراث العربي، لفكرة الأسوار والأبواب، وعلاقتها بتحصين المدن، والدفاع عنها ضد الأغراب. وما رافق ذلك من ردود فعل، في الوسط العربي، تراوحت بين التندر والحماس والاستغراب. والطريف في الأمر هنا، أن هناك باباً قائماً إلى اليوم، في مدينة "تونس القديمة"، يسمى "باب العلوج"، الذي بناه السلطان "المستنصر"، في القرن الرابع عشر الميلادي، وسماه حينها "باب الرحيبة"، أي باب الساحة الصغيرة. حيث قام أحد خلفائه السلاطين، بعد عقود، باستقدام عائلة أمه من "إيطاليا"، وأسكنها في الحي المجاور للقصبة. فأصبح الحي، الذي أقاموا فيه، يسمى "رحبة العلوج"، كتعبير قادم من "العلج"، وهو الأجنبي الأوروبي، فصار باب الحي يسمى، في ثقافة الناس، ب"باب العلوج". بين "باب العلوج"، كتسمية مستعارة بشكل مباشر من العلاقة مع الآخر، وبين "باب الحارة"، كتسمية مستعارة من هواجس نمط العيش الداخلي، لا تزال الثقافة العربية، بمختلف أشكال تطبيقاتها اليومية، وكذلك السياسات المهيمنة عليها، تشتبك بالتباس شديد مع الآخر "العلج"، وكونه عدواً أو صديقاً، في تحديد ملامحها وتقاسيمها، سياسياً ودينياً وعرقياً، ومن دون أن يساعدها في ذلك الاشتباك ما تزخر به، من تماسك تراثي مادي عميق!؟ ولعل ما يتجاوز حالة الحزن بكثير، في أحوالنا العربية الراهنة، وعلى رأسها ما اصطلح على تسميته ب"الربيع العربي"، هو أن كل ما راكمه العرب، في العصر الحديث، من رواسب ثقافية ومعرفية، حول الآخر، سواء كان عدواً أم صديقاً، يتفتت الآن على هيئة "شظايا متناثرة"، بين أبواب "العلوج" الاستعمارية فعلاً، وبين أبواب "الحارات" الوطنية فعلاً، تلك التي لم تجد من يحصنها، كما ينبغي، في حقبة ما بعد الاستقلال!؟