يعد حوار الثقافات من الموضوعات التي تستقطب الاهتمام في أنحاء مختلفة من العالم، فما هي الأسباب الداعية إلى حوار الثقافات؟ وما العوامل التي تساهم في تعزيزه، وتلك التي تعيقه؟ وما هي أدوات الحوار النظرية؟ وأخيرا ما مفهوم حوار الثقافات والعناصر المكونة له؟ كل هذه الأسئلة تجيب عليها الورقة التي قدمها الباحث الكويتي الدكتور عبدالله الجسمي من جامعة الكويت، في ندوة حوار الحضارات والتعايش بين الثقافات والأديان (عالم اليوم: ثقافات ومصالح)، وذلك على هامش دورة معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، في الكويت من 27إلى 30أكتوبر 2008.يبدأ الباحث ورقته في الإجابة عن السؤال الأول وهو: ما هي الأسباب الداعية إلى حوار الثقافات؟ فيوضحها بجملة من النقاط أهمها: - 1نهاية الحرب الباردة : حيث شهد العالم صراعا بين المعسكرين الرأسمالي الغربي والاشتراكي الشرقي، وقد انتشر الأخير في عدد كبير من دول العالم، ورأت الدول الرأسمالية في الفكر الاشتراكي خطرا عليها، فنشب الصراع الذي حال دون قيام حوار بينهما، إذ هما على طرفي نقيض، حيث تعتمد الاشتراكية طرحا إيديولوجيا عقائديا جامدا ويقينيا، ومع انهيار المعسكر الاشتراكي تلاشى الصراع وبرزت العولمة بديلا عنها، مع تفرد الغرب خصوصا أمريكا في قيادة العالم. وهنا حل الحوار محل الصراع. 2تراجع الإيديولوجيا: التي تنظر للواقع نظرة خيالية ومثالية، وتراجعها يعني تراجع الفكر الذي كان يوحد أطيافا من مختلف الثقافات والقوميات، وعودة تلك الشعوب لثقافاتها الأصلية وعادت معها الصراعات القومية، كما حدث في دول الاتحاد السوفييتي بعد تفككه، وذلك الصراع ولّد لدى تلك الشعوب الرغبة في حوار الثقافات. 3غياب الفلسفة الشمولية: كان التفكير الفلسفي حتى القرن التاسع عشر ينحو منحى شموليا للحياة حيث يُفسر العالم وما يجري فيه من خلالها، وقد مثل مذهب الفيلسوف الألماني هيجل ذروة الأفكار الشمولية، واستمر الحال هكذا حتى جاء الفلاسفة البراجماتيون في أمريكا والتحليليون في بريطانيا، فحدث تحول نوعي في طابع التفكير الفلسفي من خلال دعوتهم إلى التعددية القائمة على الواقعية الجديدة، والتركيز على الفعل واللغة والمنطق ؛ فهيمن التحليل اللغوي. 4العولمة: التي شكلت هاجسا لمعظم الشعوب نتيجة لانتشار مؤثراتها الثقافية التي من أهمها وسائل الاتصال، أما ثقافة الاستهلاك فقد أزاحت جانبا قيم وعادات عدد من الشعوب، ونشرت ثقافة التشيؤ، أي حولت النظرة إلى العالم وما فيه إلى نظرة شيئية، حتى الإنسان الذي أصبحت قيمته بما يقتنيه من أشياء. وقد سهّل انتشار هذه الثقافة أنها لا تمثل فكرا إيديولوجيا، ولو كانت كذلك لتصادمت مع ثقافات الشعوب ومعتقداتها. أما العقبات التي تقف أمام حوار الثقافات فلعل من أهمها: 1عقبات خارجية تتعلق بالسياسات والمصالح الاقتصادية، وعقبات داخلية تتعلق بطبيعة الثقافات نفسها، فهناك ثقافات تحمل في مكوناتها رفضا للحوار مع الآخر المختلف، مما يشكل أكبر عائق للحوار. 2التفاوت الثقافي بين الثقافات، سببه الأسس التي تقوم عليها، فالمرتكز الأساس في الثقافة الغربية مثلا، هو العلم الذي شكل جوانب مختلفة من حياة الإنسان الغربي وطريقة تفكيره، كالتجريب والواقعية والديموقراطية والتعددية الفكرية وحقوق الإنسان، أما الثقافة العربية فتقوم على أسس مختلفة منها العادات والتقاليد والمفاهيم القبلية والطائفية والعرقية، ومنطلقاتها الفكرية ذاتية، ويغلب عليها التفكير العاطفي لا العقلي.وهاتان الثقافتان مختلفتان كل الاختلاف، الأمر الذي يجعل الحوار بينهما محفوفا بعقبات كثيرة. 3قيام الثقافة على طروحات قومية وعرقية. 4انغلاق الثقافة على نفسها. وهذا النوع يتسم بالانغلاق على الذات والانعزالية، حتى كأنهم يعيشون في عالم آخر، مما ينعكس على طريقة تفكيرهم ونظرتهم إلى العالم وما يجري فيه من تطورات يجزمون أنها تشكل تهديدا لهم. 5تسييس حوار الثقافات بتحويله من ثقافي إلى سياسي مبطن، يهدف إلى جر بعض الثقافات إلى مواقف وقيم واعتقادات أخرى بذرائع مختلفة، كما يحدث بين إيران والبوسنة. وأما العوامل التي تساعد على إنجاح حوار الثقافات فمنها: 1أصبحت المشكلات التي تعاني منها الشعوب مشكلات عالمية، مثل تلوث البيئة والأمراض المختلفة والانفجار السكاني ونقص الموارد والغلاء. وحل هذه المشكلات يستدعي جهدا عالميا مشتركا بين دول العالم.مما يساهم في تقريب المسافات المساعدة على الحوار. 2انتشار الديموقراطية في العالم وتنامي المنظمات والحركات المنادية بها وبحقوق الإنسان. 3النزوع نحو الواقعية في التفكير، فلقد كانت بعض الشعوب ترى في نفسها تفوقا على الآخرين خصوصا بعد انتشار فكرة القومية بوجهها الشوفيني. هذه النظرة أوشكت على الانقراض في هذا القرن. 4غياب التنوع الحضاري في عالم اليوم، فلقد سادته حضارة عالمية واحدة، هي الحضارة الغربية الرأسمالية التي تسعى معظم شعوب العالم إلى تبني قيمها وأسلوبها الاقتصادي. لكن ماذا عن أدوات الحوار ومتطلباته ؟ بما أن الحوار يهدف (إلى المحادثة والفهم المتبادل لوجهات النظر، والتعاون من أجل البحث عن الحقيقة، وحماية القيم الإنسانية، والعمل من أجل تحقيق العدالة والسلام)، فإن هذا يتطلب وجود منهج للحوار يُبنى على أسس منطقية تخلو من التناقضات، ويربط بين الأفكار وتسلسلها، ويأتي التحليل المنطقي كواحد من أهم أدوات الحوار، إذ يلعب دورا رئسا في الإقناع وإيجاد التبريرات المنطقية لما يقدمه المتحاورون من أفكار ؛ وذلك لأن أكثر القضايا المتعلقة بالثقافة ليست مادية بل فكرية وذاتية، ويعد المنطق بأنه الأرضية الصلبة التي تقف عليها الخلفية الفكرية للأفراد والمجتمعات التي تعبر عن ثقافاتهم السائدة، فكل ثقافة سواء أقامت على خرافة أو أسس غيبية أو علمية، لا بد أن يوجد في تفكير أفرادها جانب منطقي تستند عليه. وللوصول إلى قواسم مشتركة بين الثقافات المختلفة، فلابد من تحديد عناصر للحوار تتضمن: 1شموليته، بمعنى ألا يكون الحوار انتقائيا يقتصر على مظاهر معينة، ويهمل مظاهر أخرى يمكن أن تشكل بؤرا للخلاف، مما يحوله إلى حوار جزئي حول قضايا محدودة يصعب معها الخروج بنتائج إيجابية من الحوار. يضاف إلى هذا عدم اقتصار الحوار على فئة معينة من ممثلي الثقافة كالسياسيين أو الاجتماعيين أو رجال الدين، بل يجب أن يشمل مختلف الفئات التي تساهم في إنتاج الثقافة في المجتمع. 2فهم ثقافة الآخر، وهي عملية في غاية الأهمية لخلق حوار ناجح بين الثقافات، وذلك يقتضي معرفة مظاهرها المختلفة، وفهم فكرها السائد وهو جوهر عملية الحوار واستمرارها وصولا إلى نتيجة ما. ولعلي أضيف إلى هذا احترام ثقافة الآخر أيا كان نوعها، وهذا الاحترام على درجة كبيرة من الأهمية، فلا يعقل أن يتحاور مجتمع ما مع مجتمع آخر في ظل ازدرائه لثقافته السائدة كما يحدث من بعض العرب عندما يحاورون أطرافا أجنبية. 3تصور الحقيقة، فالحقيقة محور الاختلافات بين الثقافات والمعتقدات والأفكار الفلسفية والإيديولوجية، ويعد مفهومها من المشاكل الفلسفية الكبرى التي ينتج عنها ذلك الكم من التنوع في الاتجاهات الفلسفية والفكرية، فكلٌ يرى الحقيقة من تصوره الخاص، وكلُ ثقافة تحتوي تصورات معينة للحقيقة أو الحقائق السائدة، بعضها متوارث وبعضها وليد الظروف المستجدة، وهناك من يرى أفكاره وثقافته هي الصواب فيرفض الآخر، وهناك من لديه مرونة واستعداد لفهم ثقافة الآخر. ولكي يحقق الحوار الثقافي أهدافه المرجوة، يجب أن تتوفر فيه مجموعة من التصورات حول الحقيقة، تتمثل فيما يلي: 1الاعتراف بأن الحقيقة ليست ملكا لأحد، والشعوب التي تدعي احتكار الحقيقة أو امتلاكها يعني محاولة فرضها على الآخرين، ويؤكد أنها تعيش أوهاما محضة ولا تعي ما يحدث في العالم، كما أن من يفعل ذلك يعاني أمراضا نفسية ونرجسية عالية الوتيرة. 2الإقرار بنسبية الحقائق التي تتعلق بالأمور الثقافية، فثقافات شعوب العالم تمر بمراحل مختلفة وتحدث فيها تطورات، مما يدل على أن الحقائق نسبية وغير ثابتة بل متغيرة، ولعل أبرز مثال على ذلك، هو الموقف من المرأة في المجتمع العربي قبل مائة عام، وكيف أصبح الوضع في وقتنا الراهن، فما كان يقينا سائدا عنها قبل قرن تغير حاليا على نحو كبير. 3ينبغي ألا تفهم الحقيقة بمعزل عن سياقها الثقافي، لأن محاولة عزلها عنه تؤدي إلى الالتباس في فهمها. 4تتطلب كيفية الوصول إلى الحقيقة فهم الأساليب التي تسود ثقافة ما للوصول لليقين فيها، حتى يمكن معرفة الأساس الذي تقوم عليه. وهنا لا يفوتنا أن نشير إلى أنه توجد ثقافات تقوم على اليقين الذاتي، حيث الذات الإنسانية هي اللاعب الأساس فيها، وتتسم بسيطرة القيم الذاتية على ما سواها، وافتقارها إلى الأدلة الموضوعية. وفي المقابل توجد ثقافات يقوم فيها اليقين على أسس موضوعية، وذلك يسود في الثقافات التي تقوم على أسس مادية، ويلعب اليقين العلمي ذو الطابع الموضوعي المدعّم بالأدلة والبراهين دورا هاما في تشكيل طريقة حياة المجتمع وقيمه ومفاهيمه، وبالتالي تساهم عملية فهم طريقة الوصول إلى اليقين، في طريقة سير الحوار والتعامل مع الثقافات المختلفة. وأخيرا، لقد وصلت البشرية إلى مرحلة متقدمة من النضج بعد تاريخ حافل من الاقتتال والاحتراب، الذي لم يخلّف سوى الدمار والخراب، وذلك يجب أن يكون درسا لدول العالم، فلم يعد لائقا بالإنسانية بعد هذه المراحل من التطور والرقي أن تحل خلافاتها اعتمادا على منطق القوة، بل لا بد من السعي للحوار البناء باجتراح آليات تساعد على نجاحه، والعمل على جعله مكونا من مكونات الثقافة - في بلداننا العربية - لدى الأجيال الشابة التي أصبحت القنوات الفضائية الهابطة تتلاعب بمشاعرها وتعمل دائبة على تأجيج غرائزها البدائية بإحياء ثقافة الاستعلاء والعنصرية والتناحر والاختلاف