النقد فعل حب، أطل من خلاله على الإنسان، بما هو صانع تاريخ الأفكار وراسم ظلالها الجمالية، وبالتالي فهو مصدر الأفعال والمعاني. وبموجب هذا التصور، لا أكتفي بالبحث عن المعنى في اللغة وحسب، بل أتجاوز ذلك الحيز إلى وساعات التجربة الإنسانية، حين أقارب المنتجات الفنية والأدبية. هذا هو جوهر عقيدتي النقدية، التي أراهن من خلالها على فهم واستيعاب المُنتج في المقام الأول بنزعة أنسنية، والانطلاق من نقطة الوعي تلك إلى حالة من التبدّل والتغيّر الدائم على المستوى الذاتي، المشتبك بالضرورة مع مأمولات اجتماعية أشمل. من هذا المنطلق، اعتبرت النص مقر إقامتي. فكل ما فكر فيه الإنسان وأحسّه عبر التاريخ يترسّب في النص. وهو بالنسبة لي ليس مجموع الكلمات والعبارات، بل الحياة ذاتها، أي كل ما له علاقة بإنتاج المعنى، على اعتبار أن الحياة تتنصّص وتتشكلن في جُمل وأصوات وخطوط، وبالتالي فلا حدود للنقد ما دام على صلة بالحياة التي لا حد لها، الأمر الذي يدفعني لمقاربة النصوص من خلال طاقتها الجمالية، وخزينها المعرفي، التي تمثل نقاط استحقاق النص على أرض الواقع. وبقدر ما أسائل وعي منتج النص، وأختبر حساسيته الجمالية إزاء نص الحياة، أكتشف منسوب درايتي بالموضوع النصي، لأُراكم خبرات قرائية جديدة في جهاز مفاهيمي، وأوسّع من الوجهة السوسيولوجية رؤيتي للعالم . فأن أمتلك وعياً نقدياً، يعني احتيازي لفكرة ذاتية، أو رأي خاص خارج المعنى العام. ومن خلاله أسجل انحيازي الصريح والواعي لموقف، دنيوي بالضرورة، وهو خيار تحتمه أرضية النص، وبشرية الذات المنتجة له، نتيجة قناعتي بأهمية وغنى التجربة الإنسانية، بمعناها الفني، وليس من منطلق واقعية النص، الذي لا أستثني أهمية إطاره الروحاني. تموضعي الدائم قبالة النصوص، هو ما يجعلني مهجوساً بأن تكون لي وقفة من الحياة الممثلّنة في نص. وقفة شكاكة، وضعية، وغير عابئة بالميتافيزيقي، فهذه هي طبيعة النقد، المنبثق من وجهة نظر ارتيابية، ضدية، اختلافية، تعدّدية، متشظية، ومعادية لحس المحافظة. بحيث تُفصح طريقة سجالي، ومنسوب نبرتي، وطبيعة عباراتي، وأسلوب معالجاتي، عن هويتي الاجتماعية، التي لا أرى لها محلاً إلا خارج أقفاص الامتثال، ولا أتخيل إمكانية نموها واستقلالها إلا بمعزل عن أوهام رومانسية الوحدوي. وهو ما يجعلني أنفر من مقاربات الواقعية الكلاسيكية، التي تطمس فكرة التعدّد في النص والحياة، وأميل إلى تحطيم معايير التقويم الأدبي المكرّسة، انحيازاً إلى دينامية الواقعية التعبيرية التي تتيح لي فرصة الانتقال من حالة القارئ المستهلك إلى فاعلية القارئ المنتج. على هذه الحافة المتأرجحة أمارس بناء موقع القارئ النوعي في داخلي، الذي يعادل في المفاهيم الحديثة مرتبة الناقد. وبمقتضى ذلك التراكم أعيد اختراع أناي. أي ضمن صيرورة سؤال الحداثة، المنغرس بعمق في المشهد الحياتي، المعبّر عنه بحركة اجتماعية تاريخية ذات طابع مدني، إذ لا يفترض بي كممارس للفعل النقدي، أن أكف عن طرح الأسئلة، وتحريك الساكن، واقتراح البدائل، فما أعتقده هو أن النص يختزن طاقة تدميرية إيجابية، أما النقد في جوهره فهو معرفة شكوكية مزعزعة لليقيني، وبناءة على الدوام، وينبغي أن يكون كذلك، أي ألاّ يكون مجرد خطاب استلحاقي للنص الأدبي، يطارده ويتطفل عليه. النقد التزام فكري وأخلاقي، ولذلك أحاول أن تتأسس ممارستي النقدية على فكرة التموضع في الفضاء الثقافي الذي يشكل بدوره ركيزة المجتمع المدني. وهذا هو بالتحديد ما يحرضني للتفتيش بين السطور، ونبش مناطق العمى في النص، حيث الخطابات المضمرة، الصادرة عن ذوات صادحة بالممكن الحياتي، المحتجة على الواقعي والمستحيل، فالمعنى - بتصوري - وإن كان مصدره الأول هو منتجه، إلا أنه ليس الوكيل الوحيد له، إذ أمتلك حق توليد جانب منه، واحتلال موقع الفاعل. انتصاراً لسلطة القارئ، وتأكيداً لفكرة الإصغاءات المتنوعة، التي تتجاوب مع مفهوم القراءات المرآتية المتعددة، كما تفترض المقاربات الحداثية للنصوص. فالنص، أي نص، لا يمكنه فرض كيفية أحادية لقراءته على مر العصور، ولا يمكنه اقتراح صيغة جامعة لمختلف الذوات القارئة. وإذا كانت النصوص الأدبية منذورة لإحداث رجة في الوعي الجمعي، فإن النقد أولى بتصعيدها، وحقنها بمستوجبات التغيير والإصلاح. وإن كان هذا المنحى الوظائفي لفكرة الثقافة عموماً، لا يعنى أن أقلص ممارستي النقدية في موقف اجتماعي أو سياسي. أو أن أسمح للفاعلية الأيدلوجية بالهيمنة على تداعيات النص، وصد جمالياته. بل أحرص كمحب للكلمات، على أدبية ما أكتب، في المقام الأول، تعزيزاً لإحساسي الفيلولوجي. والتلذُّذ بالنصوص، خصوصاً تلك التي تمتلك جسداً لغوياً باذخاً، المسكوكة بمفردات ثقافية متمادية، التي تتشح معانيها العميقة برداء من الألفاظ الدالّة. حيث تغريني أكثر بشعرنة خطابي النقدي، وبناء نص نقدي مجاور للنص الأدبي على قاعدة التضايف، إلى جانب ما أراعيه على مستوى المضامين من أهمية حضوري الفاعل في جبهة الدفاع عن قيم التنوير والتحديث. بموجب تلك القيم التي أحاول أن أحوزها، أربي القارئ النوعي في داخلي، وأُنمي عقيدتي الثقافية، التي تؤدي بالضرورة إلى انعكاس (أناي) في النص المقروء، وتعضيد حضوري ككائن جمالي. فالوعي النقدي الذي ألاحظ منسوب ارتفاعه وانخفاضه عندي، لا يكمن في الكم أو النوع الذي أقاربه من موضوعات وحسب، بل في الطريقة التي أكتسبها، أو ما تقترحه النصوص على ذائقتي، وتختبر معارفي، بمعنى أن المنظومة المعرفية الجمالية التي أحملها الآن تحت لافتة الذائقة، هي شكل من أشكال التأكيد على القناعات الاجتماعية والفكرية والسياسية، أما الأدوات التي أعتمدها لحفرياتي، فما هي إلا طريقة لتعميق صلتي بالنص، والارتطام بالحياة. ثمة تلازم بنيوي أزلي بين الكلمات والوجود. وعلى هذا الأساس المتأصل في وعيي، أميل إلى الخروج بالنص إلى الحياة، وليس الخروج عليه. ولذلك أتعمد قراءات (عبر - نصية). أي الانطلاق من النص إلى الواقع، والعودة إلى سياقات النص بما يحتمّه الواقع، فبمثل هذا الإجراء الحلقوي لتفكيك النصوص، يمكنني إلغاء المسافة المتوهّمة ما بين النص والحياة، وذلك بتجاوز القراءات المنغلقة التي تحبس النص ضمن لحظة زمنية أو رؤية آنية محدودة، وتوسيع فرصة التماس معه بقراءة منفتحة ومحايثة لصيرورة الحياة، ومكامن المعرفة الجمالية. إن نظريات النص تجعله محلاً للمعرفة والجدل والمتعة والعاطفة والخيال والحلم. وهذا الحقل يستلزم مني كقارئ أن أعي ما يتراءي من عناوينه الصريحة، مقابل ما أستمتع به من حيلّه وخبايا بناه الغائرة، لذلك أتفادى تمديده على كرسي الاعتراف لأستنطقه وفق حدود النظرية، وحواف المصطلحات الصارمة. بل أراود نفسي دائماً بتحريره من أغلال السلفية النقدية، وتذويب كل مركبات المنهج واشتراطاته في مجرى النص النقدي، لأستخلص رحيقه المفهومي والجمال، وهذا ما قد يؤهلني لابتكار بصمة أسلوبية، هي بمثابة طريقة لأداء فروض الحياة، وتكون بالضرورة فعلاً تعبيرياً مضاداً لمستوجبات الكتابة المدرسية. النص النقدي، مثله مثل النص الأدبي، لا بد أن يواري بعض قوانين لعبته الإثباتية، ويحجب طريقته للبرهنة على مراداته، ولذلك أميل إلى تركيب المناهج، وتكثيف المفاهيم النقدية الكبرى في كبسولات كلامية، وسك المفردات على حافة المصطلح، وفق مزاجي الشخصي، وتحطيم قوانين الاشتقاق اللغوية مقابل ما أنحته من مفردات تشكل في نهاية المطاف معجمي الخاص، بمعنى الاتكاء على جاذبية الجملة الثقافية، التي يتناسب حضورها بشكل طردي مع منسوب اللذة بمعناها المادي والروحي، المتأتية من القراءة. ولأن النص يوفر لمنتجه صوتاً، وحضوراً، أواجهه على الدوام بنص نقدي استفهامي النزعة. أي التباري مع الذات المنتجة له، واختبار يقينياته الراسخة، نتيجة قناعتي بلاديمقراطية النصوص، وانحيازها دائماً إلى شكل من أشكال السلطة. ولذلك غالباً ما أتجاوز السطح الكلامي للنص باتجاه البنى الدلالية العميقة للغة، فالتلقي بالنسبة لي لا يعني استقبال النص على علاته، بل إعادة بنائه وفق مداركي. أو هكذا استجوب الأنساق المغلقة للنص، لتقويض مسلماته، كما تفترض الحداثة وما بعدها، فالنقد لم يستقر في وعيي إلا كطريقة فردية لتأويل العالم، وليس مجرد فرع من فروع الدراسات الأدبية المحضة. وهذا هو بالتحديد ما يحرضني على توسيع دائرة تماسي مع النص، واستزراع الوعي النقدي في حياتي اليومية، الذي بموجبه أرسم مساري الشخصي، بحيث تكون قراءتي للنصوص فعلاً إبداعياً، وتخليقاً للممكن الحياتي، وليس مجرد استهلاك.