لم يكن «سوق عكاظ» هذا العام للشعر فقط، إنما أيضاً قدم تجارب في الرواية والنقد، لاقت اهتماماً ملحوظاً، وكان ختام فعاليات السوق، أمس، بندوة «تجارب الكُتاب»، شارك فيها الناقد محمد العباس والروائي السوري نبيل سليمان والأديب زكريا عناني، وأدارها الدكتور عاطف بهجات. وقال العباس، إن النقد بالنسبة له فعل حبٌ يطل من خلاله على الإنسان، بما هو صانع تاريخ الأفكار وراسم ظلالها الجمالية، وبالتالي فهو مصدر الأفعال والمعاني، «وبموجب هذا التصور، لا أكتفي بالبحث عن المعنى في اللغة وحسب، بل أتجاوز ذلك الحيز إلى وساعات التجربة الإنسانية، حين أقارب المنتجات الفنية والأدبية»، مشيراً إلى أن تموضعه الدائم قبالة النصوص، يجعله «مهجوساً بأن تكون لي وقفة من الحياة الممثلة في نص. وقفة شكاكة، وضعية، وغير عابئة بالميتافيزيقي، فهذه هي طبيعة النقد، المنبثق من وجهة نظر ارتيابية، ضدية، اختلافية، تعددية، متشظية، ومعادية لحس المحافظة». وأوضح صاحب «نهاية التاريخ الشفاهي» أن طريقة سجاله ومنسوب نبرته وطبيعة عباراته وأسلوب معالجاته، تفصح عن هويته الاجتماعية «التي لا أرى لها محلاً إلا خارج أقفاص الامتثال، ولا أتخيل إمكان نموها واستقلالها إلا بعزل عن أوهام رومانسية الوحدوي. وهو ما يجعلني أنفر من مقاربات الواقعية الكلاسيكية التي تطمس فكرة التعدد في النص والحياة، وأميل إلى تحطيم معايير التقويم الأدبي المكرسة». ومضى العباس مضيئاً طريقته في الكتابة النقدية، إذ يقول: «إذا كانت النصوص الأدبية منذورة لإحداث رجة في الوعي الجمعي، فإن النقد أولى بتصعيدها، وحقنها بمستوجبات التغيير والإصلاح. وإن كان هذا المنحى الوظائفي لفكرة الثقافة عموماً لا يعني أن أقلص ممارستي النقدية في موقف اجتماعي أو سياسي. أو أن أسمح للفاعلية الأيدلوجية بالهيمنة على تداعيات النص وصد جمالياته»، مضيفاً أن النص النقدي، «مثله مثل النص الأدبي، لا بد أن يواري بعض قوانين لعبته الإثباتية، ويحجب طريقته للبرهنة على مراداته، ولذلك أميل إلى تركيب المناهج، وتكثيف المفاهيم النقدية الكبرى في كبسولات كلامية». أما الروائي والناقد السوري نبيل سليمان فتحدث عن الظروف التي انبثقت خلالها رواياته، وكيف راح يكتبها. وقال إن الكتابة علمتها مبكراً ما لم يتعلمه من المرأة إلا متأخراً، «إن أغمضت طقوسية أي منهما، فلا جدوى من العناد ولا التملق ولا اللجاجة ولا التذاكي. لذلك ما إن تبدأ (العصلجة) حتى أتوقف، وقد ألجأ إلى المشي، إلى ما ألفت منذ الطفولة من أخيولات وأحلام اليقظة في المشي أو قبيل النوم، وقد ألجا إلى قراءة الشعر، أو إلى ألبومات من الفن التشكيلي...»، لافتاً إلى أن كل ذلك يكون في الكتابة الأولى، «وفيها، وفي تاليتها، ثمة طقس لا يفارق، وهوالصمت والعزلة، سواءً تحقق على بلكونة المطبخ أو بين يدي البحر أو في غرفة ضيقة من فندق». ويقول: «في هذا الطقس تأتي الصدفة العارية، الصدفة الاستفزازية، الصدفة التي لا ترحم، فيتخلخل التصور الأولي للرواية، أو ينتقض وأنت تكتبها... وربما كان ذلك لأني كنت مهجوساً، أو مهووساً بالاختلاف عما كتبت من قبل، بل - وياللغرور- بالاختلاف عما كتب سواي. إنه الهاجس والهوس الممض مع كل رواية كتبت، منذ روايتي الثانية «السجن». ويوضح حول روايته «مدارات الشرق» فيشير إلى أنه لولا «القراءة ما كانت، تماما كما أنها ما كانت لتكون، لولا أني بلغت الأربعين متفجراً بأسئلة الانهيارات التي تطوحني من مكتبي إلى أقاصي الكون، كأن نهاية القرن العشرين هي بدايته». وتساءل صاحب رواية «حجر السرائر»: هل كان ما جعلني أعوم الزمن المتربص في رواية «السجن» و«سمر الليالي» ليس حيلة على الرقيب الرسمي وغير الرسمي، بل ليكون للرواية زمانها الطقسي ومكانها الطقسي اللذان تخاطب بهما مكاناً آخر وزمنا آخر؟». وأوضح الدكتور زكريا عناني أن الرواية «لا تكون إلا من خلال محاورها الجزلة، وهي تتصل بالأدب العربي»، مستذكراً بداياته مع الشعر الرومانسي الذي كان يمثل مرحلة الشباب لديه، والتي تأثرت بأدب مصطفى لطفي المنفلوطي، إذ أثرت تلك المرحلة على توليد تجربة شاعرية ثرية. br / وتحدث عن بداية دخوله عالم ترجمة النصوص والقصائد الأجنبية والنثر إلى العربية، والتي كانت من أرض باريس عبر اتصاله في تلك الفترة مع من هم في عمره من جيل الشباب، واصفاً إياهم بالشخصيات التي ارتبطت بوجدانه. واستعرض الخلافات بين الآداب المختلفة وطرق ترجمة القصائد الشعرية، ومراعاة حالتها، وعدم فقد محتواها من الرموز والمدلولات. وفي المداخلات قال العباس إن شعار «سوق عكاظ... ملتقى الحياة» اختيار حكيم من الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز للوصول إلى مفهوم إنتاج معنى الحياة. وبيّن أن «سوق عكاظ» ليس للتجمع وتذكر الماضي وعرض تفاصيل الحضارات العربية فحسب، «بل للنقد وتلاقح الثقافات، فمساحة النقد فيه كبيرة، والدليل على ذلك إتاحة الفرصة لمثقفي الوطن العربي، ليفردوا تجاربهم في هذا السوق في مجال الأدب والرواية والشعر والنقد».