لا تبتكر المجتمعات هوياتها ولا تتعرف عليها، في تصور الناقد السعودي محمد العباس، إلا من خلال مروياتها. ما يعني أن المنتج الروائي «يكتظ بالكثير مما لم يجادل، ويستحق أن يكون محل دراسة على المستوى الفني والمضاميني». من هنا الاعتقاد أن الرواية في السعودية، بصفتها خطاباً موازياً لصيرورة المجتمع المدني، «ستظل حاضرة وبقوة كمروية مضادة للتاريخ الرسمي». كرّس العباس كتاباً ثالثاً حول الرواية السعودية، صدر حديثاً عنوانه: «سقوط التابو: الرواية السياسية في السعودية» (دار جداول للنشر والتوزيع)، وهو بعد كل هذه المتابعة، يقول إنه لا يشعر أن هذه الرواية خذلته، إذ إنه لم يراهن، أصلاً، على منتج متجاوز منذ البداية، «بالنظر إلى أن بنية الخوف والحذر التي تخيم على طقس المشهد الحياتي وليس الثقافي فحسب، لا تنتج إلا ما يشبهها. وكذلك لعدم وجود ذوات إبداعية تمتلك عادات الكتابة السردية، بل تكابر في اكتساب خبرات الكتابة الروائية. وبالتالي لم أرفع أفق توقعي أكبر مما يحدث الآن». ربما لهذا السبب يكرر العباس دوماً أن عافية الرواية في السعودية ليست بخير، «إلا من بعض الالتماعات على رغم الجوائز الملتبسة، والترجمات المدفوعة، والرافعات الإعلامية المدبرة». على هذا الأساس راح صاحب «التاريخ الشفاهي» يجادل الخطاب الروائي من منطلق واقعي من دون مبالغات، «وسأواصل هذا السجال بأشكال مختلفة للإسهام مع بعض الروائيين الواعدين، والنقاد الواعين، في تشكيل ظاهرة أدبية تعكس مدارات المشهد الحياة، وتكفل لنا جميعاً الانتماء لحركة تاريخية اجتماعية، وصولاً إلى نصاب روائي مقنع، يكون فيه السجال الاجتماعي صورة من صور الأدبي، وليس العكس». ليس من المبالغة في شيء، القول إنه عند كل صدور رواية في السعودية، يتطلع صاحبها إلى لفتة نقدية من العباس، على الأقل هذا ما يتردد، كأنما أصبح الناقد «الرسمي»، أو الذي كرّس جهوداً وأخلص لهذا الفن، أكثر من أي ناقد آخر، لكن هل هو فعلاً معني بكل رواية تصدر، أم له مزاجه الخاص؟ يقول العباس ل«الحياة» إنه يطالع فعلاً كل ما يُنتج من الروايات تقريباً، غير أنه لا يتقاطع سوى مع القليل منها، «إذ لا يلفتني إلا ما أجد فيه ما يستحق المساجلة، ويتوافق مع مشروعي النقدي وليس مزاجي». وينفي صاحب «الذاكرة المضادة» أن يكون تحول ناقداً رسمياً لهذه الرواية، لأنها الآن، كما يلفت، محل اشتغال للكثير من الدارسين خصوصاً في الحقل الأكاديمي، غير أنه يستدرك فيقول إنه لربما طبيعة المقاربة التي يتناول بها المنجز الروائي، توحي بتلك الرعاية الأدبية، «وهو اشتغال يكمل سيرتي النقدية منذ البداية، إذ كنت وما زلت معنياً برصد الظواهر الثقافية والفنية في المشهد المحلي، إذ قيل في يوم من الأيام بأني عراب القصيدة النثرية، عندما تناولت تجربة التسعينات، وما تلاها من تجارب. ولم أكن حينها، ولا حتى اليوم مطوباً لأي منتج، أو مسوّقاً بالمعنى الترويجي، بل مجادلاً حد القسوة، وهذه سمة ليست أبوية، بقدر ماهي صيغة منفتحة للمثاقفة». يأمل العباس أن تتزحزح المنابر الثقافية عن طبيعتها الباردة، وتتخذ مبادرة واعية وجادة لتفعيل المقاربات للمنجز الروائي بشكل مغاير لما يحدث عليه الآن، «ليس على طريقة ما حدث في أحد دورات مهرجان الجنادرية مثلاً، إذ تم توزيع الروايات السعودية على نقاد عرب بشكل انتقائي، وبطريقة لا تمت للمثاقفة والنقد بصلة، ولكن من خلال رؤية قادرة على توطين الكتابة الروائية في المشهد بشكلها الاحترافي الصحيح، بإقامة ورش مثلاً، واعتماد أوراق نقدية حقيقية في الملتقيات لا مداخلات إنشائية». قلق التجاوز «لا تعنيني الأسماء بقدر ما تهمني جودة العمل»، يرد على سؤال حول تلك الأسماء التي تكتب روايات جيدة، غير أنها بعيدة من الصخب والترويج الإعلامي، ويقول إن هؤلاء وإن كانوا يخضعون للمسطرة النقدية ذاتها، إلا أنهم في موضع مساءلة أكبر، «ولذلك أميز بين هاوٍ يكتب روايته الأولى تحت وطأة الشهرة والتهليل الإعلامي والرغبة في الحضور، وبين روائي أو روائية تنام على رصيد هائل من الروايات، ولا زالت تجرّب في ذائقتنا. وعليه، لا أقبل من الروائي المحترف، صاحب المنجز الطويل، أن يقلد الآخرين، ولا حتى أن يقلد نفسه. وأنتظر منه دائماً أن يعيش داخل ما يُسمى فنياً قلق التجاوز، أي تجاوز منجزه، ومنتج مجايليه. وفي هذا الصدد أميل إلى قراءة منجز أولئك داخل مدار أوسع، تنطبق عليه شروط الكتابة الحداثية القائمة على سرد «المابين» أو محكي الذات، الذي يعكس خبرات الروائي ورؤيته الشخصية للعالم. وقد تناولت بعض الأعمال بقراءات منفصلة ومخصصة لعمل، وأخرى ضمن مطالعات عامة، كما سجلت موقفي بوضوح وصراحة من أعمال تم التهليل لها، والاحتفاء بها، مع احترامي لكل من خالفني الرأي، كما أشدت بأعمال ما زالت موجودة في الظل، لأن منتجيها لا يجيدون الترويج لأنفسهم». يعتبر العباس الرواية في السعودية، منتجاً ثقافياً استراتيجياً، لذلك لا بد، في رأيه، أن تعي المؤسسة الثقافية طبيعة المنتج المراد تصديره للخارج، هذه مسألة في غاية الأهمية والخطورة، في رأيه، «لأن بعض الأعمال التي حظيت بالجوائز مثلاً، تعكس صورة من صور الرداءة الكتابية، ولا تمثل حقيقة الفعل الروائي، وبالتأكيد ستنعكس على سمعة الكتابة الروائية بمجملها، فيما يمكن الانتباه لأعمال تمتلك القدرة على إقناع القارئ العربي بوجود فعل روائي حقيقي في السعودية، وتمتلك بالفعل رؤية ذاتية قائمة على شروط فكرية وأخلاقية». في «سقوط التابو» كأنما يحمل العباس الروائيين مسؤولية ظهور المناضلين على تلك الصورة، فهم إما مراهقون أو مرضى نفسانيون، وفي الوقت نفسه يصف الرواية بأنها مرعوبة وخائفة من الرقابة، كمن يلتمس لهم العذر. بيد أن العباس يرى أن الروائي لا يفترض به أن يكون نساخاً للواقع، إنما مقاوماً للتخلف والجهل والهزيمة على الورق، «ليستحق أن يصطف إلى جانب أبطاله في حركة تاريخية اجتماعية. أو هكذا ينبغي أن يخلّق أبطاله، ليس خروجاً على الواقع، ولكن من خلال قراءة استقرائية للواقع، عبر نصية، ينتقل بموجبها من النص إلى الواقع والعكس، في حركة دورانية». وإذا كان الواقع على درجة من البؤس، فالأولى، كما يذكر، تفعيل اللحظة التي تعقب الانكسار، لا الاكتفاء بتوصيفها. ويشير إلى أن مسؤولية الكاتب هنا تكمن في تكريسه للانهزام، والتشنيع بالأبطال المنكسرين، «من دون قدرة ولا رغبة على الغوص في أعماق الشخصية. وهو مآل يوحي بأن الروائيين لا يحبون أبطالهم، لدرجة أنهم يتبنون في نهاية المطاف منطق الأمر الواقع، والنظرة التقليدية الرسمية لطبيعة الصراع، بين الشخصيات التي تمثل في الأصل منظومة من القيم». يعزو العباس السبب في هذا إلى «عدم تماس معظم الروائيين مع مناضل حقيقي مقدود من الواقع، وعدم الحرص على تقليب دفاتر ومذكرات النضال السياسي، والاكتفاء بالمرويات الشفهية الساذجة... وبالتالي لا يشكل استدعاء هذا النموذج لدى أغلب الروائيين إلا حالاً من الاستعراض واستفزاز الرقيب وخداع القارئ، أي استجلاب الإثارة لنص باهت». روائيون يتآمرون على شخوصهم في كتاب العباس الجديد، محاولة لإسقاط ليس التابو فقط، إنما تلك الصورة التي يرسمها الروائيون لأنفسهم، حين يقدمون أنفسهم على أنهم يعالجون مواضيع شائكة ومسكوتاً عنها، وعلى مقدار من الجرأة والشجاعة، بل إنه يجعلهم في صف واحد مع المؤسسة الرسمية، «هذا هو ما يحدث بالفعل في الروايات» يقول مؤكداً: «فالمعتقل من وجهة نظر الروائيين هو مجرد محل لكسر شوكة المناضل وتأديبه واستنفاد طاقته المعنوية والجسدية، ولا يشكل بأي حال من الأحوال مكاناً لإعادة إنتاج الذات، وهذه واحدة من مقولات السلطة المتبناة بقوة في الرواية السياسية في السعودية، والتي يمكن أن نسمع رنين صداها في ردهات معظم الروايات» يكرر بعض الروائيون، وفقاً للعباس، عبارات تنم عن الندم، والرغبة في التوبة عن معركة لم يخوضوها. في شهادة نقدية يتطرق العباس إلى ما تعنيه الممارسة النقدية بالنسبة له، فهي فعل حب، يطل من خلاله على الإنسان، «بما هو صانع تاريخ الأفكار وراسم ظلالها الجمالية، وبالتالي فهو مصدر الأفعال والمعاني». وبموجب هذا التصور، لا يكتفي بالبحث عن المعنى في اللغة فحسب، بل يتجاوز ذلك الحيز «إلى وساعات التجربة الإنسانية، حين أقارب المنتجات الفنية والأدبية». فأسأله عن أي تجربة إنسانية يمكن رصدها في رواية غالبية من يكتبها شبان؟ يجيب قائلاً إن الرؤية الطهورية للنص والحياة أيضاً «لا تُنتج أدباً، كما أن الظاهرة العمرية لكتاب الرواية في السعودية بحاجة إلى تأمل». يقول العباس إن هؤلاء الشباب لو كتبوا تجاربهم الذاتية «لحصلنا على نمط كتابي خلاّق، ولكن أغلبهم – للأسف – يبالغون في السطو على تجارب الآخرين، وادعاء البطولة، والتمسح بشعارات السلم الاجتماعي، واستظهار الواقع من خلال المقروء، بمعنى أنهم يتورطون في مواضيع أكبر مما تحتمله أعمارهم ولا تحويه تجاربهم. هذا ما نلاحظه عند مقاربة أي رواية مكتوبة بقلم شاب أو شابة، إذ تغيب الخبرات اللغوية واللالغوية، وتحل محلها الادعاءات والأوهام. وهي نتيجة طبيعية لمفهوم الكتابة الإثباتية المعتمدة الآن، المستلحقة بالأداء الحقوقي، بالنظر إلى أن الطقس الاجتماعي، يمجّد الضجيج حول الثقافة المطلبية، فيما يغيّب بوعي فاضح التجربة الجمالية». ولهذه الأسباب لا يتوقع صاحب «سادنات القمر» الكثير من تلك المنتجات «المزوّرة، التي تزيف الواقع، وترسم صورة مموهة للذات مقابل استحقاقات اللحظة. إذ لا يمكن أن نتصور أن مراهقة تتحدث عن معركة اجتماعية حقوقية وهي ما زالت تستلم مصروف جيبها من والدها، ولا يمكن أن نقر كتابة شاب انفلاتية عن الجسد ومعانيه الفلسفية، فيما هو يعجز عن مثاقفة أبسط متطلباته الحسّية». ويرى أن السباق ناحية العناوين الوعرة «يسهم في هذا الاختلال، إذ تتكاثر الكتابة حول نكاح المحارم، والشذوذ الجنسي، والصدام المجاني مع «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، والتشنيع الخطابي على القبيلة، والتبرؤ اللفظي من المذهبية، والتودد الأجوف للآخر، من دون رصيد مقنع من الخبرات الجمالية والمضمونية، ومن دون امتلاك أي نقطة ارتكاز تسند النص من الوجهة اللغوية على أرض الواقع». ويلفت إلى أن هذا المنحى الكتابي الاغترابي، إنما يخلق زمرة من النبلاء المزيفين، «الذين يضعون المجتمع تحت طائلة النقد ويقدمون رؤية تسطيحية للحياة. فما نقرأه في الغالب ليس سوى متوالية من الكلام الإنشائي البائت، لا علاقة له بالتجربة الإنسانية، ولا يمكن لمثل هذه الثرثرة أن تنتج إنساناً، كما تفترض الرواية بما هي خطاب هدمي بنائي. إذ لا يهدم هذا الركام شيئاً من التخلف المعاش، ولا يفتح طريقاً مضاءً بأي معنى، فهي مجرد دروس وعظية خالية من الوخزات الجمالية، التي تتفادى الأسئلة الإشكالية لتمارس حراكها في الهامش». النقد العربي لا يتعامل إلا مع أسماء «مكرّسة»