رَمَادِيَّةٌ يا صَاحِبي كُلُّ نَظَرِيَّةٍ وخَضْرَاءُ الشَّجَرَةُ الذَّهَبَيَّةُ للحياة غوته ما أحببْتُ قصيدة لغازي القصيبيّ قَدْر حُبِّي لقصيدته التي قالها في جِسْر الملك فهد الذي يربط ما بين المملكة العربيّة السّعوديّة والبحرين عام 1402ه=1982م، وظلَّتْ هذه القصيدة، مُنْذ شاهدْتُ غازي القصيبيّ وهو يُلْقيها، تحتلّ مكانة في قلبي ووجداني، وكان مِمَّا زاد مِنْ جمالها إنشاده الموقَّع، واتّكاؤه على حرف الرَّاء الذي جاء رويًّا للقصيدة. وأنا أُعِيد هذا الشَّغف بتلك القصيدة إلى أنَّها كانتِ العتبة الأولَى إلى تذوُّقي معْنَى الجمال، وكان ذلك التَّذوُّق على سذاجته أشدّ أثرًا، وأبلغ قيمةً مِمّا انتهَى إليه أمري بعْد أنْ ثَقِفْتُ شيئًا مِنْ نظريَّة الشِّعْر وفلسفته، وليس مِنْ شيْء يفوق تلك الفِطْرة الأدبيّة التي كنتُ عليها، ولا شيْء يَعْلُو تلك الصِّلة العذْبة التي تهيَّأتْ لي وأنا أبحث عنْ جمال قصيدة أقرأها. ولعلِّي بعْد تلك السَّنوات الطَّويلة التي فصلتْ ما بيني وبين تلك اللَّحظة الذَّهبيَّة مِنْ عمري- أَرُدّ طَرَفًا مِنْ تلك النَّشْوة إلى دَرْس البلاغة والنَّقْد في المرحلة الثَّانويَّة، فلهذا الدَّرْس مرتبته السّامقة بين الدّروس التي كُلِّفْنا دراستها، ولطالما استدنَيْتُ هذا الدَّرْس قبل تقريره علينا، وكنْتُ أتحيَّنُ الفُرْصة وأخْلُوَ إلى الكتب المقرَّرة على إخوتي الذين سبقوني في الدَّراسة، ويَلَذّ لي مِنْ تلك الكتب مقرَّر "البلاغة والنَّقْد"، ويا لَها مِنْ أوقات هانئة سعيدة تلك التي مرَّتْ عليَّ وأنا أقرأ طَرَفًا مِنْ الفرْق ما بين "البلاغة" و"الفصاحة"، وأُلِمّ بشيْء مِنْ جمال التَّشبيه، وأُمَلِّي النَّظَر في أركانه، وأجُوس في خِلال الشَّواهد القرآنيَّة والشِّعْريَّة التي يسوقها الكتاب المدْرسيّ بين يديْ الشَّرْح والتَّحليل، وخرجْتُ مِنْ تلك السِّياحة السَّريعة بكنز عظيم هو معرفة أسرار الجمال التي تجعْل مِنْ أثر ما نصًّا أدبيًّا نطْرب له ونحتفي به. ووجدْتُني حفيًّا بذلك اللِّقاء الحميم بدرْس البلاغة، الذي ساقه انتقالي إلى الصَّفّ الثّاني الثّانويّ، وشاء توفيق الله – تبارَك وتعالَى – أن يُعْهَد بدرْس البلاغة إلى أستاذنا محمد صالح الخولانيّ - رحمه الله - وهو شاعر مصريّ كبير، وله مِنَ الفضْل عليَّ ما لا أستطيع وفاءً له إلا أنْ أدعو الله أن يجزيه خير الجزاء، فلكم أرشد، ولكم وجَّه، ولكم فتح لي عقله وقلبه، وأخذ بيدي، وحبَّب لي الأدب وزَيَّنه في قلبي وعقلي. وفي تلك الْمُدّة استمعْتُ إلى قصيدة "ضَرْب مِنَ العِشْقِ" لغازي القصيبيّ، وما إنِ استمعْتُ إليها حتَّى استظْهَرْتُ أبياتًا مِنْها، وكنْتُ كلَّما وقَعْتُ على تشبيه، أوْ مجاز، أوْ مُحَسِّن بديعيّ، كمَن وجد ضالَّته التي أعيا نفسه في طِلَابها، وتبدَّتْ لي تلك القصيدة آيةً في الإمتاع ومَجْلًى للبلاغة، وعلَى هذا استقرَّ رأيي فيها كلَّما استعادتْها ذاكرتي ورَجَعَتْني إلى ذلك الزَّمن الجميل. هلْ بالإمكان تَذَكُّر شيْء مِنْ تلك المقاييس التي أخذتْ بيدي إلى ضُروب الجمال فيها؟ أغلب الظَّنّ أنّ ما شدَّني إليها إحساسي الفِطْرِيّ ببناء القصيدة على التَّقْسيم والموازنة بين الجُمَل، ولمْ أكُنْ لأستطيع تعبيرًا عنْ هذا الإحساس، فذلك ممّا لا تُؤَدِّيه الصِّفة، لكنَّ شيئًا مِنْ ذلك التَّقسيم أحدث أثره في نفْسي، وأنا إذْ أقرأ البيت الأوَّل مِنَ القصيدة أوْ أُرَدِّده في ضميري أكاد أحِسّ الإحساس الفِطْرِيّ السَّاذَج الذي انتبهتُ إليه في ذلك الأوان ضَرْبٌ مِنَ الْعِشْقِ... لَا دَرْبٌ مِنَ الْحَجَرِ هَذَا الَّذِي طَارَ بِالْوَاحَاتِ لِلْجُزُرِ فالشَّاعر يُثْبِت شيئًا وينفي شيئًا آخَر، وتؤدِّي اللّغة الإثبات والنَّفْي بجملتيْن اسميّتيْن تحتلّ كلمات كلّ منهما الموقع نفسه في الإعراب، ويُحْدِث العبور بين الجملتين هزّة إيقاعيّة، سببها التّقسيم والموازنة، وإيقاع تفاعيل بحر البسيط، هذا البحر الشِّعْري الأثير لدى غازي القصيبيّ. وكان الجِنَاس بين كلمَتَيْ "ضَرْب"، و"دَرْب" هو سِرّ الأدبيّة التي تكشَّفَتْ لي آنذاك، وهو الانتقال مِنْ شَيْئيَّة "الْجِسْر"، فهو ليس كأيِّ جِسْر تعْبُره السَّيَّارات والْمركبات، إنَّما هو "ضَرْبٌ مِنَ العِشْقِ"، وبهذه العبارة عَبَرَتِ القصيدة فوق مناسبتها، واحتلَّتْ موقعها مِنَ الأدبيَّة مِنَ الحدث العابِر إلى الحدث الأدبيّ، وأَخَذَنا الشَّاعِر إلى عالَمه هو، وأنزلْنا علَى شرطه وقانونه، وهنا عَرَف الطَّالب أنْ لا شيْء يطير بواحات الأحساء إلى جزر البحرين سوى الشِّعْر الذي هو قِطْعة مِنَ القلوب. وأذْكر – وكأنَّني أعْبُر الآن إلى تلك اللَّحظات – أنَّ أبيات القصيدة أفْلحتْ في صَرْفي عن الحدث المألوف، وهو بناء جِسْر، وجعلتْ هذه القصيدة تَبْني في عقلي جِسْرًا إلى الفنون الأدبيّة، فالقصيبيّ، وهو خلاصة عجيبة اكتشفها الآن للصّحراء والبحْر، نَثَر في قصيدته هذه مفردات عالَمِه الذي ألفاه في المؤالفة بين الصّحراء والبحْر، فاجتمعتْ بين يديه الخِيام والشّطآن، وقَبِلَتِ الخيام تلك المؤالفة فانتمتْ إلى جِوَاء البحر "شِرَاعًا أبيضَ الخَفَرِ"، وسِيَّان بعد هذه المؤالفة البديعة أن يرَى الشَّاعر، بعين الشِّعْر، زورقًا يتهادَى في لُجَّة البحر، أوْ جَمَلًا نَشِطَ للسَّفَر وهَشَّ له، وإنَّ تلك القُيُود التي تفْصل ما بين الجمل والزَّورق إنْ هي إلا قُيُود أمْلتْها الحدود والسُّدود على كلمات اللُّغة، وإلا فإنّ الجِمَال في مشيْها المتأنِّي، رويْدًا رويْدًا، إنَّما تبدَّتْ لإنسان الصَّحراء سَفِينًا يَمْخُر صحراء تعلو فيها موجةٌ موجةً، وتبْلغ كلمات اللّغة سِدْرة منتهاها، ويستوي في الإحساس واللَّذّة الأثر المنبعث مِنْ تِلْك الأصوات القادمة مِنَ الصّحراء ومِنَ البحر معًا، سواء أكان ما انتهَى إلينا أثرًا مِنْ حَدْو البَدْو في صحرائهم الصّامتة يستدرُّون بها عطْفها وحنانها، أوْ أغنيات تَعْبُر إلينا مِنْ سفائن الغوص، يُهَدِّئ بها البحَّارة مِنْ روعهم وجفلهم مِنَ المصير المجهول الذي يُخَبِّئه لهم البحر. ولا تَسَلْني عنْ ذلك السِّحْر الذي تبدَّى لي مِنَ الاستعارة الْمَكْنِيَّة في هذا البيت البديع وَاسْتَيْقَظَتْ نَخْلَةٌ وَسْنَى تُوَشْوِشُنِي مَنْ طَوَّقَ النَّخْلَ بِالأَصْدَافِ والدُّرَرِ؟ ولا أدري ما سِرّ انبهاري بالاستعارة المكْنِيّة منذ وقفْتُ عليها في دَرْس البلاغة؟ لكنّ الذي أدريه أنّ الاستعارة الْمَكْنِيَّة شَدَّتْنِي إلى حيث الفنّ شدًّا، وكنتُ كلَّما أزحْتُ اللِّثَام عنْ أركانها أشْعر ببلوغي مرتبة عليَّة في اقتناص أسرار البلاغة، وأشعر أنّ قراءة الجمال ضرب مِنَ المعاناة، وأنَّ الأثر الأدبيّ، مهما يَبْدُ يسيرًا ساذَجًا، يحملْ في أغواره طبقات مِنْ كفاح الإنسان ومكابدته أسباب الحياة. نعم. لم يَتَعدَّ ذوقي المدْرسيّ، في تلك الأثناء، قواعد البلاغة برتابتها ونمطيّتها، وكان بلوغ ذلك احتياز معنى الجمال الأدبيّ، وأنا أكتشف مجاهل الصّورة الأدبيّة: "اسْتَيْقَظَتْ نَخْلَةٌ وَسْنَى تُوَشْوِشُنِي" استعارة مكنيَّة، فالشَّاعر شبَّه النَّخلة بإنسان، وحذف المشبَّه به، وجاء بشيْء مِنْ لوازمه على سبيل الاستعارة المكْنيّة! كان ذلك كُلّ شَيْء تُخبِّئه لي الاستعارة المكْنِيَّة، ولم أكنْ لأرجو منْها فوق ذلك. إنَّها صُورة أخَّاذة تلك الصّورة التي تجعل النَّخلة تستيقظ وتُوَشْوِشُ! إنَّ إحساسًا بالطَّرافة جعل يتملَّكني ويُدْخِلُني إلى أروقة الأدب، ولا سيَّما الشِّعْر. والآن، وأنا أكتب هذه الكلمات، أكاد أُحِسّ الأثر نفسه الذي مرَّ بي قبل تلك السَّنوات التي قطعتُها، وأكاد أُحِسّ بتلك النَّخْلة اليقْظَى التي تدْفَع عنْ عينيها سِنَةً مِنْ نَوْم، وهي إذْ تفعل ذلك تُوَشْوِشُ الشَّاعر، أمّا كلمة "تُوَشْوِشُنِي" فما أطْيَبَ وقْعَها على صفحة القلْب، ولك أنْ تتخيَّل تلك النَّخلة السَّامقة تُطَامِنُ مِنْ ساقها لِتُوَشْوِشَ امرءًا ما، إنَّ صوت "الوَشْوَشَة" انتقل إليَّ، وهلْ مِنْ فرق بين حفيف سعفات النَّخْل، وهذه الشِّينات البديعات التي تُصْدرها الوَشْوَشة؟! وَلِمَ لا تستيقظ النَّخلة الوَسْنَى وتُوَشْوِشُ صاحبها، وفي النَّخلة مِنَ الإنسان مشابه، حتَّى جاء في الأثر "أكْرِمُوا عَمَّتكم النَّخلة"! وبين النَّخلة والإنسان تاريخ موغل في القِدَم يكتشف الشّعراء شيئًا مِنْ أسراره. أحَسَّ النَّاس بذلك المعنى العميق الذي أنهاه إليهم جِسْر يَصِل بلدًا ببلد، وأطلقوا عليه اسم "جِسْر المحبَّة"، قبل أنْ يصبح اسمه، بعد ذلك، "جسر الملك فهد"، وعسَى أن يكون ربط المحبَّة بالجسر وصولًا إلى ذلك المعنَى الذي أفصحتْ عنه هذه القصيدة، فأناطتِ اللِّثَام عنْ تلك المحبَّة التي تَجْمَع، وتتجاوز أبعاد الجغرافيا، فيغيب الدَّرْب الحجريّ الذي تحوَّلَ إلى ضرْب مِنَ العِشْق، وتنادتْ مُدُن الجزيرة إلى هذا الضَّرْب مِنَ العِشْق، في تآلف سِيق في غنائيَّة قوامها العِشْق لا الحجر، وأخرج الشَّاعر تلك المدن عنْ وقارها وهيبتها، ووجدتِ الرِّياض والمنامة وجدّة والمحرَّق ومسقط والدَّوحة والكويت والعَين في أبيات القصيدة مسرحًا للفرح والمحبَّة نَسِيْتُ أَيْنَ أَنَا.. إِنَّ الرِّيَاضَ هُنَا مَعَ الْمُحَرَّقِ مَشْغُولانِ بِالسَّمَرِ وَهَذِهِ جِدَّةٌ جَاءَتْ بِأَنْجُمِهَا؟ أَمِ الْمُحَرَّقُ جَاءَتْنَا مَعَ الْقَمَرِ؟ أَمْ أَنَّهَا مَسْقَطُ السَّمْرَاءُ زَائِرَتِي؟ أَمْ أَنَّهَا الدَّوْحَةُ الْخَضْرَاءُ فِيْ قَطَرِ؟ أَمِ الْكُوَيْتُ الَّتِي حَيَّتْ فَهِمْتُ بِهَا؟ أَمْ أَنَّهَا الْعَيْنُ؟ كَمْ فِي الْعَيْنِ مِنْ حَوَرِ وخلُصَ الشَّاعر ابن الصَّحراء والبحر إلى معادلته البديعة: أن يَجْمَع البدْو والبحَّارة في قصيده، دون أن يُكَدِّر مِنْ صفوهم مكدِّر بَدْوٌ وَبَحَّارَةٌ.. مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ يَنْسَابَانِ مِنْ مُضَرِ؟ خَلِيجُ! إِنَّ حِبَالَ اللهِ تَرْبِطُنَا فَهَلْ يُفَرِّقُنَا خَيْطٌ مِنَ الْبَشَرِ؟