طالما ردَّدْتُ في خاطري الشّاهد البلاغيّ: لا تَعْجَبِي يَا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ ضَحِكَ الْمَشِيْبُ بِرَأْسِهِ فَبَكَى عرفتُ هذا الشّاهد في درس البلاغة في المرحلة الثّانويّة، ثمّ ألِفْتُ قراءته في كتب البيان العربيّ، ثمّ كان مِنْ جُمْلة الشّواهد التي ذاعتْ في كتب البلاغة في المدارس والمعاهد والجامعات. ولشواهد النّحْو والبلاغة سطوة على طلاب العربيّة، تسوقها كتب النّحْو والبلاغة والأدب تأكيدًا لقاعدة، وتبيانًا لمشكل أوْ غامض. وأذكر أنّنا كنّا نجد لذّة كبيرة ونحن نلتمس في كتب القوم شاهدًا، ومَنْ ساعده الحظّ فاستظهر قَدْرًا منها، فقدْ حاز عِلْمًا، وتميَّز عنْ أقرانه، وفي هذا الإحساس شيْء مِنَ الصّواب، ولكنّ ذلك شأن آخَر. في تلك المدّة عرفْتُ أنّ هذا الشّاهد البلاغيّ للشّاعر دِعْبِل بن عليّ الخزاعيّ (148-246ه)، ولم يكنْ مِنَ المهمّ أنْ تَجاوزت معرفتي بالشّاعر ذلك القَدْر، فالدّرس بلاغة، ولم تكن البلاغة لتروم مِنْ طالبها أن يخلط بينها وبين تاريخ الأدب، وما وقع في خاطري أنْ أزيد معرفتي بالشّاعر، وما عناني مِنْ شواهد البلاغة إلا أنْ أسوق بين يَدَيْ الإجابة الشّاهد والمثل، وإلا أنْ ألتمس فيها ضربًا من ضروب البيان، أو المعاني، أو البديع، فنزلتْ تلك الشّواهد مفردة منتزعة مِنْ سياقها، ولا يعنيني منها، أوْ قُلْ لا يَعْني الدَّرْس والمدرِّس والدّارس، إلا وفاءها لقاعدة، أمّا ما سوى ذلك مِنْ الإلماح إلى روح الشِّعْر، ومكابدة الشّاعر الحياة فتلك ثقافة لم تنشأ البلاغة في كنفها منذ غار روح اللُّغة وانطفأتْ جذوة الحياة فيها. انتُزِع مِنَ الشِّعْر جوهره، وتناوشتْه مباضع البلاغيّين حين أقصَوْا روح اللُّغة وترسَّموا أقْيِسة المنطق، وتحوَّلتِ اللُّغة بين أيديهم إلى رواسم باردة، ونَهَكَ البلاغيّ نفسه في تَتُبِّع استعارة تصريحيّة، هنا، أوْ مَكْنِيّة، هناك، وعسى أن يَظْفَر بجِنَاس أوْ طِبَاق أوْ توريَة. هذا ما عيينا في طِلابه، ولم يكنْ درس البلاغة ليكلِّفنا فوق ذلك، وإنّا إذْ نقع على بيت دِعْبِل فليس ثمّة سوى تلك الرّواسم القارّة في كتب البلاغة، سقطتْ إلينا، قرنًا بعد قرن، ملتحفة ببرودة القواعد، وانتهى إلينا مِنْ روح الشِّعْر هذا الجليد البادي في (طِبَاق) بين (ضَحِكَ) و(بَكَى)، واستعارة مكنيّة في قوله: ضَحِكَ المشيبُ، شُبِّه فيه المشيب بإنسان يضحك، وحُذِف المشبَّه به، وجيءَ بشيْء مِنْ لوازمه وهو الضَّحك، ثمّ ينتهي كلّ شيْء! نَعَمْ! انتهى كلّ شيْء ومات البيت تحت مباضع البلاغيّين، وعَلِمَ الله أنّني لم أُحِسَّ لهذا البيت روعة ولا جمالاً، إلا بعد أن اطَّرحْتُ جانبًا يُبُوسة البلاغة، وآنئذٍ أشفقْتُ على بيت دِعْبِل الذي أماتتْه البلاغة وما كان ميتًا، وانتهى به الحال إلى أن يأوي إلى ثلاجة البلاغة جَسَدًا باردًا لا يُومِئ إلى مكابدة أوْ معاناة، فليس إلى هذا يريدون، وإنّما قُصَارَاهُم أن يُمَزِّقوه أشلاء مِنَ المصطلحات البلاغيّة التي فُتِنُوا بها. والبيت، بَعْدُ، يَرُوع بما انطوَى عليه مِنْ نُذُر الموت الذي تراءى للشّاعر، فالشَّيْب ليس حدثًا هيِّنًا، إنّه حدث وجوديّ، إنّ الأمر لا يدعو للعجب، إنّه يدعو للعطف والإشفاق، وصاحبة الشّاعر (سلمَى) ولا يعنينا هنا منها أحقيقة هي أمْ رمز لم تكنْ سِلْمًا له، ولم تَرَ في الشَّيب سوى موضع التّعجُّب، وها هو ذا المشيب يمعن في قتل الشّاعر ضحكًا وسُخْرًا. البيت يخفي في أعطافه الحذر مِنَ الموت، وبين الضّحك والبكاء يفغر الموت فمه، يضحك المشيب فيبكي الرّجُل، وللشّيب تاريخ حزين راعب في الشِّعْر العربيّ، وما بكى الشُّعراء شيئًا بكاءهم الشَّباب، وها هو ذا دِعْبِل يَفْزَع إلى الشِّعْر يلتمس فيه طمأنينة لنفسه، وليس ثمّة إلا هذه الصَّرخة التي أمسكتِ الاستفهامات بخناق بعض: أَينَ الشَّبابُ؟ وأَيَّة سَلَكَا لاَ، أَينَ يُطْلَبُ؟ ضَلَّ بَلْ هَلَكا وكأنّ الشّاعر مسَّه عارِض مِنْ خَبَل، فتناثرتْ كلمات اللُّغة فَزِعة تنبئ عنْ ذلك الاضطراب الذي نزل به، تبدأ بالسُّؤال الصَّعب "أين الشَّبابُ؟"، ويُتْبَع السُّؤال بالسُّؤال، فعسى أن يؤوب، والشَّاعر يَعْرف أنَّه يطلب المحال، وكأنَّه أدرك ذلك فنزلتْ "لا" في بداءة عَجُز البيت جِسْرًا بين الشَّكّ واليقين، أوْ كأنّ "لا" هذه الفَزِعة توطئة للحقيقة التي حاول الشَّاعر أن يتَّقيها، فكانتْ إجابتُه التي تَدَرَّجَتْ لتنبئه بفقد الشَّباب: "ضَلَّ"، ولكنَّه ليس ضلالاً، بلْ هو الهلاك، هذا المصير المفزع الذي أقرَّ به الشَّاعر في هذا البيت الاستهلاليّ. نحن، إذنْ، إزاء حقيقة قاتمة حاول الشَّاعر أن يدفعها، ثمّ أقرَّ بها مرغَمًا، وهي أنَّ الشَّباب قدْ غادره، ثمّ ساق الشّاعر البيت الثّاني، وهو الشّاهد البلاغيّ، لِيُسَوِّغ هذه الفاجعة التي نزلتْ به، فكان هذا التَّضادّ الذي يَسْخر بمآله، وهلْ مِنْ سُخْرية تفوق الضِّحك والبكاء معًا؟! حجبت البلاغة ذلك الرُّعْب الذي لاح في البيت الأوّل، وسَكَتَ البلاغيُّون عنْ ذلك الهَلَع، واختطفوا البيت مِنْ بيئته الرُّوحيّة التي تَنْتَهِبها أرْواح الحياة والموت، وآضَ بين أيديهم جسدًا ميتًا، يُمَنُّون أنفسهم أن ينتفعوا بأعضائه الهامدة، وتركوا للشَّاعر بؤسه وحزنه ومصيره المفزع: قَدْ كَانَ يَضْحَكُ فِي شَبِيبَتِهِ وَأَتَى الْمَشِيبُ، فَقَلَّمَا ضَحِكَا * كاتب سعودي