ثمة شعور بأن جموداً لازال يُهيمن على العملية التفاوضية، الرامية إلى إيجاد تسوية مجمع عليها للقضية القبرصية. وهي القضية التي شغلت السياسة الدولية منذ نحو أربعة عقود، وحتى وقتنا الراهن. وفي تقرير قدمه إلى مجلس الأمن الدولي، مطلع آذار مارس الماضي، عبر الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، عن قلقه من بطء العملية التفاوضية في قبرص، موضحاً انها لا يمكن أن تستمر إلى الأبد وفي تقرير قدمه إلى مجلس الأمن الدولي، مطلع آذار مارس الماضي، عبر الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، عن قلقه من بطء العملية التفاوضية في قبرص، موضحاً انها لا يمكن أن تستمر إلى الأبد. وقد انطلقت الجولة الأخيرة، من مفاوضات التسوية الخاصة بإعادة توحيد الجزيرة، في الثالث من أيلول سبتمبر 2008، بلقاء جمع زعيمي القبارصة الأتراك واليونانيين، وبحضور ممثل للأمين العام للأمم المتحدة. وقد دارت المفاوضات حول كيفية وضع نظام فيدرالي لدولة قبرصية موحدة، تتكون من منطقتين وطائفتين، متساويتين في الحقوق السياسية. ووافق الجانبان القبرصيان، التركي واليوناني، من حيث المبدأ، على توحيد الجزيرة على أساس فيدرالي، على أن يجري طرح أي اتفاق، يتم التوصل إليه، إلى استفتاء عام. ومثلت خيبة أمل الرأي العام من سير مفاوضات التسوية، في الشطر التركي من قبرص، سبباً رئيسياً لعدم نجاح محمد علي طلعت في الفوز بولاية رئاسية جديدة، في انتخابات التاسع عشر من نيسان أبريل من العام 2010 . وقد أسفرت تلك الانتخابات عن فوز درويش أراوغلو بمنصب رئاسة الدولة. وكان أراوغلو رئيساً للوزراء، كما يتزعم، في الوقت نفسه، حزب الوحدة الوطنية. وأكد أراوغلو، بعد إعلان فوزه، أنه ملتزم بمواصلة محادثات السلام مع الشطر اليوناني من الجزيرة، وأنه يعتبر المفاوضات أحد مبادئه الأساسية. وسيعمل بنية حسنة من أجل التوصل إلى حل، يأخذ في الحسبان حقوق القبارصة الأتراك. وكانت الأممالمتحدة قد طرحت في العام 2004 خطة لإعادة توحيد الجزيرة، عرضت على استفتاء شعبي، أظهر قبولاً من قبل القبارصة الأتراك، بنسبة بلغت 65%. ورفضاً من قبل القبارصة اليونانيين، بنسبة 76%. وانضم الشطر اليوناني من قبرص إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، بعد أيام فقط من رفضه للخطة الدولية الخاصة بإعادة توحيد الجزيرة، في حين تراجع الاتحاد الأوروبي عن تعهداته بإنهاء العزلة المفروضة على القبارصة الأتراك، في حال صوتوا بالإيجاب لصالح هذه الخطة. وبعد أعوام من الجمود، شهد العام 2008 بعض الخطوات المشجعة، حيث أعادت السلطات القبرصية اليونانية، في الثالث من نيسان أبريل من ذلك العام، فتح شارع ليدرا في نيقوسيا، الذي كان يرمز إلى تقسيم العاصمة. وذلك بعد 45 عاماً على إغلاقه. وكان هذا الشارع قد أغلق في العام 1964، خلال اندلاع المعارك بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين، وظل مغلقاً منذ ذلك الوقت. وقبل شهرين على تلك الخطوة، وتحديداً في التاسع من كانون الثاني يناير من العام 2007، كان القبارصة الأتراك قد أقدموا على تفكيك جسر معدني على شارع أساسي في نيقوسيا، في بادرة حسن نية تجاه القبارصة اليونانيين. وفي الرابع عشر من تشرين الأول أكتوبر الماضي، افتتح قبارصة يونانيون وأتراك معبراً جديداً بين شطري الجزيرة، يمتد لمسافة أربعة كيلومترات عبر التلال. ويعمل على ربط خط الهدنة بواحدة من أبعد المناطق في شمال غرب قبرص. وتمتد خطوط وقف إطلاق النار حوالي 180 كيلومتراً عبر الجزيرة. وتختلف المنطقة العازلة بين الخطوط في عرضها، من أقل من 20 متراً إلى نحو سبعة كيلومترات. وتغطي نحو ثلاثة في المائة من مساحة الجزيرة. ولا يزال جزءاً من الساحل القريب من الخط الأخضر في مدينة فاماغوستا، المقسمة بين الشطرين، مهجوراً ببناياته ومرافقه، حيث يمنع دخوله على السياح والمواطنين. وذلك بانتظار تسوية ملف المهجرين والنازحين، أو تبادل المناطق، بين شطري الجزيرة. وخلال زيارتين قمت بهما إلى شمال قبرص، قدّر لي الوقوف على بعض "المناطق المحايدة"، وتلك التي تفصل بينها أسوار خط الهدنة، في كل من مدينتي فاماغوستا ونيقوسيا. وللحقيقة، فهو منظر يبعث على الحزن، لأن المواطن العادي في كلا الجانبين هو من يدفع ثمن هذا الوضع غير الطبيعي، الذي طال أمده. ويمتد الشطر القبرصي التركي على مساحة من اليابسة تبلغ ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسة وخمسين كيلو متراً مربعاً، من أصل تسعة آلاف ومائتين وواحد وخمسين كيلو متراً مربعاً هي إجمالي مساحة جزيرة قبرص، التي تعد ثالث أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط، بعد صقلية وسردينيا. وهي لا تبعد سوى 64 كيلومتراً عن جنوب تركيا. وعلى الرغم من أن مساحة الشطر التركي تعادل نحو نصف مساحة الشطر اليوناني، إلا أنه يتمتع بسواحل طويلة وممتدة. وفي الجذور التاريخية للقضية القبرصية، يُمكن ملاحظة أن دستور قبرص، الذي تم تطبيقه في العام 1960، بعد الاستقلال عن بريطانيا، قد قسم المناصب السياسية بين الطائفتين القبرصيتين اليونانية والتركية، مع إعطاء القبارصة اليونانيين غالبية هذه المناصب ( 70%)، كونهم يشكلون غالبية. وحسب الدستور، فإن منصب نائب الرئيس يشغله قبرصي تركي. كما توزع مقاعد البرلمان ال 80 بين الطائفتين، بما معدله 56 مقعدا للقبارصة اليونان و 24 للقبارصة الأتراك. وقد وقعت كل من قبرص واليونان وتركيا وبريطانيا معاهدة لضمان الأحكام الأساسية للدستور، والسلامة الإقليمية لقبرص وسيادتها. وسميت الدول الثلاث الأخيرة بالدول الضامنة. بيد أن الساسة القبارصة اليونانيين انقلبوا في كانون الأول ديسمبر 1963 على دستور العام 1960، واتجهوا للتعامل مع القبارصة الأتراك باعتبارهم أقلية عرقية ودينية، لا بصفتهم شركاء في الوطن. وما لبث القبارصة الأتراك أن أصبحوا ضحية لسلسلة متصلة من العنف الدموي، الذي قامت به مليشيات قبرصية يونانية مغطاة من الدولة. وفي 15 تموز يوليو 1974 حدث انقلاب عسكري في قبرص، نفذته، بالتعاون مع ضباط يونانيين، عناصر قبرصية يونانية تدعو لاندماج الجزيرة مع اليونان. وترافق الانقلاب مع مجازر واسعة، ارتكبت بحق المجموعة القبرصية التركية. وهنا، قامت تركيا، باعتبارها إحدى الدول الضامنة لأمن قبرص، بالتدخل العسكري، للحيلولة دون وقوع إبادة جماعية واسعة النطاق بحق هذه المجموعة، التي تركزت، في الأخير، في الجزء الشمالي من الجزيرة. وقد طلب مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار، وإرساء الأسس للمفاوضات بين اليونان وتركيا وبريطانيا. وسرى وقف إطلاق نار فعلي في 16 آب أغسطس من العام 1974. وكان مجلس الأمن الدولي قد اعتمد في 4 آذار مارس 1964 القرار الرقم (186)، الذي أوصى بإنشاء قوة الأممالمتحدة لحفظ السلام في قبرص (UNFICYP)، والتي بدأت العمل في السابع والعشرين من الشهر ذاته. وتحددت مهمة هذه القوة حسبما يلي: "الحفاظ على السلام والأمن الدوليين، واستخدام أكبر جهودها لمنع تجدد القتال، وحسب الضرورة الإسهام في صيانة واستعادة القانون والنظام، والعودة إلى الظروف الطبيعية". وإثر أحداث تموز يوليو وآب أغسطس 1974 اعتمد مجلس الأمن عدداً من القرارات، التي أثرت على وظيفة قوة حفظ السلام الأممية العاملة في قبرص.وتطلب منها أن تؤدي مهاماً إضافية، ترتبط، بصة خاصة، بصيانة وقف إطلاق النار. وفي 15 تشرين الثاني نوفمبر من العام 1983، أعلنت القيادات القبرصية التركية قيام "الجمهورية التركية لشمال قبرص"، بعد استفتاء عام لسكان الجزء الشمالي من الجزيرة. ولم تعترف باستقلال هذه الجمهورية حتى اليوم سوى دولة واحدة هي تركيا. وتعتبر تركيا الداعم الأساسي لشمال قبرص. وهي تموّل اقتصاده بنحو 700 مليون دولار سنوياً. وهناك خط جوي وحيد يربط قبرص التركية بالعالم الخارجي، يمر عبر مطار إسطنبول. كما يوجد خط بحري ناشط بين ميناء كاريينا القبرصي التركي ومدينة أضنة التركية. كذلك، تعتبر تركيا الضامن الأمني للقبارصة الأتراك. وبعد تطوّرات تشرين الثاني نوفمبر 1983، تعززت سياسة العقوبات والحصار المفروضة على القبارصة الأتراك، على الرغم من كونها سياسة منافية للقانون الدولي، الذي يحظر مبدأ العقاب الجماعي بحق الشعوب. والحقيقة، إن قراري مجلس الأمن الدولي الرقم (542) والرقم (550 )، الصادرين عام 1983، قد ولدا بفعل ضغط اليمن المحافظ في الغرب، الذي كان حينها في أوج انتعاشه. ومع مرور الوقت، أعطي هذان القراران ما يفوق كثيراً مضمونهما الحقيقي. وتحركت أطراف بعينها تجوب شرق الأرض وغربها، بهدف تشديد الحصار على القبارصة الأتراك، محاولة اللعب على وتر المقولات الطائفية، المستترة تارة، والصريحة في أغلب الأحيان. ومن المنظور القانوني، يُمكن القول إن متغيراً كبيراً قد طرأ على فلسفة ( أو روح) القررات الدولية، الخاصة بالقضية القبرصية. وذلك اعتباراً من العام 2004، عندما وافق القبارصة الأتراك على خطة الأممالمتحدة لإعادة توحيد الجزيرة. إن الطبيعة القانونية للقرارين (542) و(550) قد تغيرت بعد هذا الحدث، فالقانون يخضع لسنة التطوّر. وبالتالي يتعين الاعتراف بضرورة تعديل القواعد القانونية، إذا تغيرت حيثيات الظروف التي أوجدتها.وهذا ما نصت عليه اتفاقية فيينا لعام 1969 في مادتها (62). وإذا كان أحد لا يدعو لفرض عقوبات على القبارصة اليونانيين، لرفضهم خطة الأممالمتحدة، فإن أحداً لا يجوز له أيضاً القول باستمرار الحصار المفروض على القبارصة الأتراك. وهذا ما أكده كوفي أنان، أمين عام الأممالمتحدة السابق، في تقريره الذي قدمه إلى مجلس الأمن الدولي، في 28 أيار مايو 2004، والذي أوصى فيه بإنهاء الحصار الاقتصادي المفروض على الشطر القبرصي التركي. وعلى الرغم من واقع العزلة، حقق القبارصة الأتراك بعض النجاحات على صعيد روابطهم بالعالم الخارجي. وعلى مستوى دول الخليج تحديداً، افتتحت أول ممثلية للشطر القبرصي التركي في أبوظبي، في العام 1987. وتالياً، تم افتتاح مكاتب تجارية للقبارصة الأتراك في دول خليجية مختلفة. وعلى الدول العربية عامة أن تبدأ اليوم في إقامة صلات تجارية وثقافية مع القبارصة الأتراك. وأن تدفع بمؤسساتها الاقتصادية والمالية للاستثمار في الشطر القبرصي التركي، حيث تبدو الفرص واعدة. إن القضية القبرصية قد دخلت عملياً منعطفاً تاريخياً في مسارها منذ العام 2004. وإن نجاح جهود التسوية السياسية يتوقف، في أحد أبعاده، على المرونة التي يُمكن أن يُبديها المجتمع الدولي حيال القبارصة الأتراك، وخاصة لجهة تخفيف العزلة المفروضة عليهم. وستمثل خطوة كهذه بادرة حسن نية، من شأنها تعزيز فرص الخيار التفاوضي. وعلى الأسرة الدولية تحمل مسؤولياتها وفقاً لميثاق الأممالمتحدة، والقانون الدولي الإنساني. وخاصة فيما يرتبط بحق الشعوب في العيش حرة كريمة.