لن تجد الكثير عن محمد غني حكمت في كتب التأرخة النقدية الأولى التي ظهرت عن الفن التشكيلي العراقي، سواء في موسوعة جبرا ابراهيم جبرا أو نزار سليم او حتى كتاب شاكر حسن آل سعيد، وهي تعد من كتب التأسيس في هذا الميدان. ولكنك تجد أعمال هذا الفنان، الذي توفي الأسبوع المنصرم، في كل زاوية ببغداد،وفي بلدان عربية وغربية مختلفة، بل ترى بعضا من عطاياه وأريحيته في معظم بيوت الأصدقاء التي مر بها. كل من عرفه تلقى هدية منه، لوحة أو تخطيطا وضعه وهو يجلس على طاولة السمر. هذا الفنان الذي لا يكف عن نحت خطوطه في كل يوم وساعة، يبدو قادماً من زمن غابر، حيث الصنعة تعرب عن نفسها في سلسلة من الحكايا اليومية التي يراها الفنان في منطويات الصور، لتكتسي الأسماء والحروف وجودا مكثفا لتلك الرؤى الخيالية التي تسفر عن وجه محتجب في أنامل ساحر مثله. كان المعلم الماهر يعيش لفنه مع ابتسامة وادعة تمنح الإحساس بالرضا والود الغامر. لعل شخصيته التي توحي بالدفء، جزء من سيرة تماثيله في الساحات التي أستأنسها الناس حتى البسطاء منهم. فمحمد غني حكمت الذي أوكل إليه تنفيذ نصب الحرية بعد وفاة جواد سليم، استطاع ان يكمل ما بدا وكأنه خطاب جماعة بغداد للفن الحديث التي انتمى إليها في سن مبكرة، فكان وفيا لأهم ما انتجته من رؤى وتصورات عن وظيفة الفن من حيث هو تعبير عن هوية المدينة وجزء من تاريخها وعالمها المتحرك. ومثلما فعل جواد سليم في حياته القصيرة، سار محمد غني حكمت على هذا الدرب، لا يتوانى عن تنفيذ الأعمال التي يكلف بنحتها، دون أن تجذبه فكرة الفن التجاري، بل استطاع رفع سقف الذائقة الفنية سواء عند اصحاب الشأن او الناس العاديين. لعله يذكّرنا بأسطوات بغداد القدامى الذين أجادوا حرفتهم حتى غدت جزءا من بداهة لا تحتاج إلى الكثير من الكد. غير أن لمحمد غني حكمت خريج مدرسة الفن الإيطالية العريقة، منقلبا يمضي فيه نحو عوالم جد خصوصية، فهو مجرب يتنقل بين واقعيته الرومانسية وأقصى ما يوفره الفن التجريدي من قدرة على النأي. لعل نهجه التركيبي في دمج النحت بالحروفية، قد قطع الكثير من الصلات بالواقع، فما شغله من الفن الرافديني، تلك القدرة على التناسل في الشكل الواحد، فالكتابة المسمارية على اللوح هي رسومات للمعاني تتعدد بوجودها الواحد، وهكذا يصبح للحركة درجات معلومة من الإيقاعات التي تجذب الناظر إلى مفهوم الكتلة ومعنى الفراغ وقيمة التداخل والتدرج في هارموني العمل الواحد. ترك محمد غني حكمت في النحت والخط وفي فنون نقش الجداريات والأبواب، تراثا خصبا تفوّق فيه من حيث الكم على الكثير من مجايليه وتلامذته، فهو دؤوب على نحو بدا استثنائيا لفنان في مثل عمره، فكانت تلك المثابرة اختباراً لطاقاته الروحية والبدنية وتجديداً لأساليبه ومقترحاته واضافاته الفنية، فبدت حياته وكأنها مشاريع متصلة تنتظر الإنجاز باستمرار. ما من استراحة شهدها هذا الفنان مهما تغيرت الظروف وأسكتت او همشّت أعمال الكثير من الفنانين الكبار في العراق، وبقي في كل هذا محتفظا بهامشه الخاص، فلم تنجح الدكتاتورية في تسفيه أعماله رغم ان هباتها كانت مغرية للكثيرين، فقد تعفف حكمت عن مسابقة قوس النصر الذي يمجد الحرب العراقية الايرانية، وبعد وفاة الفنان خالد الرحال الذي انجز الجزء الكبير منه، أرغمته السلطة على اكمال النصب، وهو في كل مناسبة يعلن براءته من هذا العمل الذي يذكر الناس بشعبوية الفن الفاشي ودمويته. عاد إلى بغداد مؤخرا وترك ثلاثة مشاريع ستضاف إلى المعالم التي تزين مدينته حيث يستكمل عبرها تراث حكايا لياليها العربية : شهرزاد وشهريار وكهرمانة وبساط الريح وسواها، اضافة إلى تماثيل المتنبي وأبي نواس وحمورابي. وجد حكمت في الأبواب ضالته كي يستعيد قوة التجريد في الفن الإسلامي، مع طموح نحو توظيف هارموني التدوين في الكتابة التصويرية وهي كتابة الحضارات الأولى وبينها السومرية. ولعل إنجازه هذا يشكل الجانب المهم في خصوصية صنعته ، فنحت الحروف والأشكال، يتعدى الصفة التزينية، الى البحث الدؤوب عن جماليات الحفر على الرموز في تصادف وتناظر وجودها الذهني والحسي. الأبواب التي أورقت على يديه موسيقى حروفها وتكوينات صورها، تشكل سيرة المكان ومفتاح الولوج إلى الدار،حيث يغدو التناسب بين رشاقة التدوير وانسيابية الحركة الهندسية للمضلّع والمثلث والمستطيل في تعاشقها وتوازيها وتداخلها، محض تأمل صوفي في الذاكرة المستعادة وفي حاضر المكان وماضيه. فكل باب تصدح فيه غنائية روحية شرقية، وتتشكل من التقاء الخطوط المنحنية بالمستقيمة بالمتصالبة، وهكذا بمقدورنا ان ندرك زخرفة المعابد الهندية في باب " متعة النفوس" 1988، حيث خطوط الأجساد تتداخل في إيقاع كوني يتجمع في بؤر توزع شهوات الجسد الفطرية ضمن انسيابية التقاء حدودها وافتراقها، كما يصنع من "باب بغداد" 1968 ذلك التوازن الداخلي السكوني لفن التوريق او الكتابة التقليدية، كما يسميها جبرا، كي يعكس قوة الخصب في المدينة الولود. بحث محمد غني عن مديات متناظرة من الحيوية للأشكال التي تتخذ صيغة حروفية، وللأحرف التي تتخذ هيئة بشرية أو نباتية أو حيوانية، كي يعيد للمعنى التعبيري بعض بداهته وفطرته، فالكتابة الأولى كانت تصويرا للقول، وسيلة إيضاح للمعنى البسيط في الكلمة، وهي بما هي عليه من دلالات في اكتشاف قوتها وأهميتها في حياة البشر، تغدو استعادتها عند فنان مثله، رياضة عقلية، قدر ما هي تدقيق في الصنعة،صنعة النقّاش والنجّار ومزين الحيطان. محمد غني حكمت الأسطى العراقي بامتياز، شديد الاعتزاز بخصوصية مواطنته الفنية، ومع أن من الصعوبة تخيل فنه بعيدا عن التأثيرات الغربية، كما من الصعب ان نفصله عن المواضيع الفولكلورية التي تبناها جواد سليم وسواه من فناني مدرسة بغداد، غير ان بمقدوره أن يجد مسوغات لتلك التشابهات او الاختلافات في منابع النشأة الأولى، وفي صراع او حوار الصور والأشكال بين حضارات الشرق القديمة وبينها وبين الفن الأفريقي. دينامية محمد غني حكمت ترتبط بذهنه العملي، ما ساعده على أن يكون صاحب خيال منتج، يتنقل بين مشاريع لا حصر لها، وهو يخوض مغامرة الفن والحياة، دون أن يلتفت الى الوراء. يجد في الأشياء البسيطة والمعقدة خاصية يعيد انتاجها لينسبها إلى نفسه وفنه الذي وضعه فوق كل اعتبار، فكان فنان المدينة التي ترى نفسها في مرآة صنعته، تتزين بتماثيله وجدارياته، وتحفظ تاريخها الشخصي في أرشيف ذاكرة صناعها وحرفييها القدامى والجدد، وبينهم محمد غني حكمت.