منذ أن تجاوزت الرواية مسألة كونها جنساً أدبياً إشكالياً، بدأت بالفعل في تشكيل تاريخها الملموس من الحفريات والمساءلات، فصارت تولّد الأسئلة حول الحياة العربية وداخلها، حيث تشير كثافة الإصدارات الروائية إلى مجتمع روايات بالفعل، وإلى أن الإنسان العربي بدأ يميل إلى التعبير من خلالها كخطاب استحواذي، عن واقعه المعقد والقائم على تراكم هائل من الزيف والأوهام والخيبات والأحلام والمعتقدات، أو هذا ما بات يحاوله ذلك الكائن المسحوق تحت وابل من الإرغامات الاجتماعية والسياسية والثقافية، ليحقق حضوره ويفصح عن كينونته، بالنظر إلى ما تمثله كوعاء جامع للهواجس الفردية والتحولات الجمعية، وما يمكن أن تشكله كمضمار لرصد التوترات والأزمات الإنسانية. وعلى إيقاع مقولة زمن الرواية الطافح بالمنتجات الروائية، والقامع لزمن الشعر، يراوح الروائي العربي بين خيارين لسرد واقعه، فإما أن يجعل من روايته قناعاً لتزييف معتقداته، ومواراة عواطفه، بالمغالاة في الوعظية، والجنوح للذاتية الفارطة والرومانسية الفجة، والاستغراق في البكائية والرثائية الساذجة، اتكاء على مفهوم قاصر يماهي بين الخطاب الروائي والتسلية، وإما أن يرجّح فهمه لمعنى الفن الرفيع، ويؤكد اشتغاله بهذا المنحى، أي أن يحيل روايته إلى محطة من محطات اللغة الخلاّقة، والتجريب الواعي، وتوطين مفاهيم الحداثة وشروطها، واستظهار الذات، بمعنى تدمير تقاليد السرد في ظل تفكيك عناصر الحياة وبعثرتها ثم إعادة تركيبها، في قالب سردي يمكن أن يحقق النصاب الأدبي المأمول، بمعنى الحرص على أدبية الكتابة الروائية، إلى جانب تموضع الروائي في جبهة الدفاع عن قيم التنوير. ولا شك أن الخيار الثاني هو المحل الذي ينبغي للخطاب الروائي العربي أن يتبناه، حيث تكمن مشروعيته الإبداعية، على اعتبار أن الأدب يتحرك ضمن كل ما له علاقة بإنتاج المعنى بكل تداعياته الحياتية، الأمر الذي يعني أن الرواية العربية يفترض أن تتولد من رحم التمرد، وعلى إيقاع هزات اجتماعية وتاريخية وحضارية بعيدة المدى، لا أن تعكس محدودية أثر اللحظة، لأنها في هذه الحالة، ووفقاً لما يقال عن كونها الممثل الشرعي لديوان العربي، تبدو منذورة للتعبير عن الإنسان العربي، وليس عن نزوات عابرة أو هوامش حياتية، وإن كان الوصول إلى المجتمعية لا يتحقق إلا عبر الفردية. إن انحياز الروائي العربي لخيار التجريب والتأسيس الواعي لحساسية جمالية جديدة، يعنى بالضرورة توغله في حقول المحرّم الثقافي، وارتياده لآفاق مجهولة لم يتم التفكير فيها، وبالتالي قبوله بتحويل الرواية إلى لحظة جدلية بامتياز، عصبها الوعي. وهو انزياح لا يزعزع البنية الشكلية والدلالية للرواية وحسب، بل يلامس كل عناصر السرد، بما في ذلك إمكانية تغيير مفاهيم ومعايير البطولة، التي تشكل من الوجهة السوسيولوجية جوهر الرؤية إزاء العالم، ضمن أنساقه الجمالية والأخلاقية والفكرية، بمعنى تفعيل الخيال وبسط العالم أمامه ليبتدع رؤيته الكفيلة بعصرنة الحياة، وتحقيق معادلة إبداعية تدفع بالرواية لأن تكون بالفعل مرآة الحياة الحديثة. التفكير في الرواية هو جزء لا يتجزأ من هاجس مبدعها. وبالتأكيد، يشكل إدراك الروائي العربي لهذه الخطوة حالة من الوعي المتقدم بأهمية تحرير الرواية من صرامة تقاليدها، واستفزاز المخيلة، وإيقاظ الذاكرة، بمعنى تحريك جينات النص الروائي وتخصيبه بالحسّي والثقافي، الأمر الذي يحقق له فرصة تنبيض الحياة، وتشكيل الموقف الفكري للذات عبر الفني. وهذه هي المهمة التي يفترض أن يضطلع بها، من حيث كونه أحد المنتمين بالضرورة لحركة اجتماعية تاريخية، مقابل ما يمتلئ به على الجانب الآخر من المكوّن العاطفي، بمعنى تذويب أحلام الفرد الناعمة داخل الشرط الإجتماعي، وتشكيل كل ذلك المزيج من الأنساق الكامنة، والصيغ المفهومية الظاهرة في نسيج الرواية. لا حدود للتعبير الروائي، وحدود الرواية هي آفاق الأدب ذاته. وعليه، يمكن للرواية العربية، بما وصلت اليه اليوم، أن تعبّر عن أدق تفاصيل ما يستشعره الإنسان العربي من مرارة، وهو الأمر الذي يستلزم سبر أغوار هذه الذات الخائبة، والإرتداد عمودياً في وعيها ولا وعيها، وبالمقابل يحتاج الروائي العربي إلى لغة غير مستهلكة، ترقى إلى مستوى الذات المأزومة، المزدحمة بالأحلام والإنكسارات، بحيث تنكتب - أي الرواية - برهافة وصدقية من داخل اللحظة التاريخية وليس عنها، بما هي الحامل لكل العلامات والإشارات، وبما هي الأجدر بالسير في كل الدروب، واكتساب صفة الوعاء الأشمل الذي يستوعب كل ما يمور به المجتمع من أحوال جماعات بالمعنى الثوري لمعنى الأدب، الذي يعرض بشكل درامي معنى أن تكون إنساناً في جميع الأزمنة.