الأجساد الممدة لأطفال الصومال، وهم يتجرعون الموت على دفعات، لم تعد جديدة أو صادمة للكثير من الناس، فقد ارتبط الجوع بالصومال، حتى كنا في طفولتنا نتدّر على النحيف فنقول إنه قادم من الصومال. وكلما التقيت مواطنا منهم في لندن، وهم كثر هناك، يتبادر إلى ذهني هذا المنظر الذي يتكرر في الذاكرة العالمية، وعلى كارتات الأوكسفام وكل منظمات المعونة الإنسانية. طفل الصومال هذا لا يعرف الحزن ولا الفرح، فهو محايد مثل مجاعته التي تغزو بلده فيتحول أناسه إلى كائنات فضائية، يرحلون عن عالم البشر، عالم المطالب والحاجات، إلى ما وراء الحلم بلقمة صغيرة وكوب حليب يبل عروقهم اليابسة. ليس بمقدور هؤلاء أن يدركوا ملذات الطعام، ولا مفهوم تذوق الأطايب،كما يحلم الفقراء عادة، فهناك منطقة تقصيهم عن بطر التفكير بجمال المائدة وخيراتها. لعلهم يسبحون في حلم اليقظة الممض، سراب الحياة الغاربة. فهناك في النقطة البعيدة التي تقف خلف عيونهم المعذّبة، ثمة نسغ يسري كالبداهة، ينده الدعوة فيهم إلى البقاء، الإصرار على اجتراح النفس الأخير وهو يخرج من بين حشرجات الصدور. ينشأ طفل البرية الصومالي كي يموت جوعا، قبل ان يعرف معنى العاطفة، عاطفة الكفاية، فالثدي الذي يرضعه قد صام على يباس مثل عظامه التي ستكتسب شكل البشاعة كي تحتجب عن أعين مثل أعيننا. لعلنا نمارس مازوكية من نوع خاص ونحن نحدق بالذبذبات الضوئية التي تنقل الصورة عبر الأقمار الصناعية، ولن تكون تلك الطبيبة البيضاء التي تتنقل بينهم، أقل منا مازوكية، فهي تجترح بطولة لا ثمن لها سوى الإحساس بالهزيمة المطلقة، هزيمة البشرية وهي تجازي المجاعات والأوبئة والفيضانات والحروب،بنظرية مالتوس. وهذه النظرية لمن لايعرفها، ترى في الكوارث الحل الطبيعي لمعضلة التكاثر البشري. استنكرها بالطبع، مفكرون مختلفون، ولكن البشرية نفسها لم تخلق نظاما لدحضها. هكذا اخترع البشر الفانون والذاهبون إلى الجنة الأرضية والسماوية قوانينهم. وإلا كيف تكون هكذا مجاعة مؤبدة وثابتة ثبات الصومال على خريطة العالم. قبل أن تحكم جمهورية سياد بري الاشتراكية "الديمقراطية" بقبضة دباباتها في انقلاب عسكري، والمجازر المنظمة تسير على إيقاع المجاعات في هذا البلد. لم تتغير المعادلة حتى بعد أن استبدل سياد بري جلده ليصبح رأسمالي الهوى، وكارها الشيوعية ومتحالفا مع اسرائيل والسادات وأمريكا الريغانية. بقي الصومال في عهده "الرأسمالي" جائعا، مثلما كان في عهده الاشتراكي السعيد. توجت الحرب الأهلية التي اندلعت في التسعينات، صعود الإسلام السياسي الممثل بعصابات المحاكم الأهلية، ودفعت قوات حفظ السلام العالمية، الثمن غاليا وهي تحاول الفصل بين المتخاصمين من شيوخ قبائل إلى قطاع طرق وبقايا العسكر بعد أن حُل جيشهم. كان أمراء الحرب يمدون ألسنتهم لشعبهم ويقهقون وسط الخراب. ما من علة توازي الجهل والهوية المجروحة لشعب لا يعرف لمن ينتمي. عزلة الجغرافيا وأنانية القادة، وتكالب الجيران، خلق ذلك الفراغ الذي لا يشبع من الموت، فكانت الأسلحة المهربة من أثيوبيا واريتيريا والسودان، قد تركت الصومال إلى مصيرها الكارثي. المدارس الدينية العسكرية التي يشملها الأثرياء المسلمون برعايتهم، تكفي وحدها لخلق أكبر مجاعة في العقول والأجساد معاً. آخر ما ابتكرته الصومال الجائعة، كتائب الشباب المجاهدين، وهي تنظيم من الصبيان كبروا الآن يؤمنون بفكر القاعدة كحل نهائي لمشاكل الجغرافيا العالمية، كل بلاد الكفر تحت أعين البندقية الصومالية!!على مبعدة يربض القراصنة،وهم شباب قدموا من فكرة الثورة إياها، كي يستعيدوا مجد الأسلاف. كانت الصومال أحد أهم مراكز التجارة البحرية في العالم القديم، حيث كان التجار الصوماليون الموردين الأساسيين للتوابل والمر،وهي في طريقها الى أرض بابل ومصر الفرعونية.تجارة الذهب في العهود الإسلامية كانت بيدهم أيضا. ولكن من يلتفت اليوم إلى بلد تفخر مليشياته بقلة انتشار الإيدز فيه، يالها من معجزة مشهودة، لمن يوزع السلاح على الأطفال بدل الخبز. أطفال السلاح هؤلاء الذين يتصيدهم الدعاة من الشوارع، يتعلمون أبجدية القتل والقسوة المعجونة بخوف مؤبد من العالم، وفن خلق الأعداء وهم كثر في زمننا. عبثا تبكي الأمهات، فالمجاعة هنا تقف مقابل لقيمات تدفع بفم هؤلاء الصغار، جيل المستقبل الصومالي الذي يحظى سلاحه المهرب برعاية تفوق أضعاف مضاعفة رعاية مساعدات الغذاء. بعد انتهاء الحرب الباردة، بردت حدة الصراعات في القرن الأفريقي، بعد ان تركتها الدكتاتوريات الاشتراكية وأعداؤها الراديكاليون من اسلاميين وقبائل وقطاع طرق، قاعا صفصفا. هل اليمن والسودان جارات الصومال المتشابهات في المصائب، على مبعدة من مصيرها المؤلم، مصير طفلها الذي لم يتبق منه سوى العينين الناطقتين ببؤس البشرية. موائد المثرين تفيض عن حاجاتها كي تذهب في رحلتها من لاس فيغاس حتى مونتي كارلو والعواصم الأخرى التي تتشبه بهما، محملة ببطر يشبه البشر وهم يخطون خطوتهم نحو السعادات المطلقة، سعادة الربح الذي تشرف عليه عيون الجميلات. كل موائد القمار تحرسها الفاتنات، شرط ان يكون الذكاء قادماً من الوول ستريت وكل مراكز البورصة القذرة التي تشبهها. طفل الصومال يجهل قراءة الأسرار، الصغيرة منها والكبيرة، ولم يتعلم سوى انتظار الموت في بلد تشكل نسبة الإنجاب فيه أرقاما قياسية. لعلها مفارقة التقاليد، فالأم التي تبيع طفلها كي تأكل خبزا، ستتركه يوما في شوارع القتال إن قيض له أن يعيش على الفتات. كانت القاعدة أحد الحلول التي ابتكرتها نظرية مالتوس للعالم الثالث، ابتكرها ابن لادن المليونير الذي زهد بالحياة الفانية واستعاض عنها بخطاب الوعظ والبندقية ومجموعة من الزوجات. أتباعه الذين تربوا في شوارع مقاديشو وجوبا وجدو، تعلموا نهب قوافل المساعدات العالمية، ألم تكن هذه المساعدات قادمة من بلاد الكفر؟ ستكون مناطق المجاعة في الصومال الجنوبي، من بين الأماكن الاكثر خطورة لقوافل الصليب الأحمر والبعثات الطبية العالمية. من أين يأتي المجاهدون بالأسلحة والمال؟ لعله سؤالنا نحن العرب والمسلمين، فنظرية مالتوس التي تبنتها القاعدة في أفغانستان والعراق والباكستان، أثمرت تعقيما اصطناعيا للشعوب المسلمة من نوع مبتكر. ستبقى الصومال جائعة فهذا قدرها الذي لا راد له، وسيبقى طفلها الذي يسف التراب ويحوم الذباب على عينيه، صورة لبطاقة تذهب إلى المستحيل كي تقنع المنطق أن هناك رحمة في قلوب البشر.