كانت الحياة بالنسبة له كومة خشب ، يصنع من هذه كرسياً ، ومن تلك (طربيزة) أو دولاباً .. مدفون عطية في النجارة منذ صغره ، حتى أخذ جسده شكل الخشب ولونه .. وعرقه رائحة (الغراء) ، ويده ملمس (الصنفرة) .! لم يكن يبحث لمواهبه في العزف والطرق والنشر عن (سمّيعة) .. وكان بثه خاصا ومباشرا لروشان واحد. لمحها مرة واحدة بلا قصد ، لكنه كان دائما يحس بوجودها تنظر إليه وكأنها تشجعه وتحفزه ليكد ويشقى .! وتطلع إلى (البيت الكبير) ، وهو أمل كان من حقه أن يعيشه حتى لو لم يتحقق .. قال له صاحب البيت يوما ً : " أبغاك تسوي لى دكة قدّام البيت ياعطية ، أقعد عليها في العصرية " .. طار عطية من الفرح ولم يوقّع لأنه وجد زبونًا (من ريحة الحبايب) .! لم ينم تلك الليلة .. ولم تنم (السمسمية) .. صلّى الفجر حاضراً في مسجد البغدادية .. ومع بزوغ النور كان يفرد المتر ويطويه ، ويبعده ويدنيه .. يأخذ قياسات (الدكة) ويدون الأرقام على راحة كفه بالقلم (الكوبيا) بعد أن يغمسه بلسانه . قبل ان ينام بعد الظهر ، كان قد قطع الأخشاب (بالمنشار) حسب المقاسات ونعّمها (بالفارة) .. وحضّر (الغراء) وعلبة المسامير وورق (الصنفرة)... كانت أحلام (الظهر) واضحة المعالم .. ثلاثة أيام لم يهدأ عطية .. حتى اخذت (الدكة) موقعها أمام البيت كأنها (الكوشة) . " عجبك الشغل يا عم محمد " ؟ " عجبني كتير يا عطية " .! أخذ (عطية ) فلوسه بالزيادة .. ولم يكن يريد هذه الفلوس ولا تلك الزيادة .. كان هو يريد ... وأحلامه تزيد .. وعندما يأتي المساء ، ونجوم الليل تنظر ، تتعالى نغمات (السمسمية ) يصاحبها لأول مرة صوت شجي لم تسمعه أذن من قبل .. " يا حلو يا مسلينى .. يللي بنار البعد كاويني .. متى الزمان يسمح وتجيني .. من كتر شوقي عليك ما بنام " . ومع أن النوم سلطان فهو لم يستطع ان يبسط نفوذه على عينيْ عطية .! قال عم محمد : " شايفك نحفان شوية يا عطية .. إنت وجعان ، ولا كنت سهران .. وسهران مع مين يا عطية " ؟ " سهران لوحدي يا عم محمد " . " تبغى البنية يا عطية " ؟ جف ريقه .. شعر أن (حلقه) يحتاج إلى برميل ماء ، قبل أن يقول: " إيوه أبغاها يا عم محمد " .! " تبغى تشوفها أول يا عطية " ؟ " لا ما يحتاج أشوفها .. لكن يمكن هي تبغى تشوفني " .! وتنهد عم محمد : " هي ما تشوف .. هي بس تسمع (السمسمية) يا عطية .! عرف عطية أن الإنسان لا يعيش بعيونه ، حتى قبل أن يسمع الناس أغنية (عيون القلب) .!