نحمد الله ونشكره أن المعركة بين البيت الأبيض والكونجرس بخصوص رفع سقف الاقتراض الحكومي قد انتهت بسلام. فلقد اتفق الطرفان على رفع سقف الدين بمقدار 2.4 تريليون دولار من ناحية وخفض الإنفاق الحكومي خلال السنوات العشر المقبلة بنفس قيمة رفع سقف الدين، مع عدم فرض ضرائب جديدة من ناحية أخرى. ورغم ذلك فإن الولاياتالمتحدة لم يتسن لها تجنب دفع ثمن عناد سياسييها من كلا الجانبين. فمؤسسة ستاندرد أند بورز الدولية للتصنيف الائتماني قد خفضت يوم الجمعة الماضية تصنيف الولاياتالمتحدة من " AAA" إلى "AA" ومثلما نعرف فإنه من غير الممكن أن تصاب أمريكا بالزكام دونما أن يعطس بقية العالم. فلقد رأينا مقدار الخسائر التي لحقت بالمستثمرين في كافة البلدان على أثر انهيار مؤشرات الأسهم في الأسواق المالية. وإذا أردنا الحقيقة فإنه من الصعب على أي بلد آخر غير الولاياتالمتحدة تحمل كل هذه المؤشرات الاقتصادية السيئة مثل عجز الميزانية والميزان التجاري والحساب الجاري وارتفاع الدين القومي لأرقام فلكية. ولكن الولاياتالمتحدة بما لديها من قدرات اقتصادية جبارة وقاعدة تكنولوجية متطورة جداً وتقدم هائل في مجال العلوم الأساسية تبعث الثقة بمقدرتها على تخطي الأزمات الاقتصادية والمالية التي تعاني منها. ويكفي هنا أن نشير فقط إلى أن علماء هذا البلد الرائد هم الذي يحصدون سنوياً حصة الأسد من جوائز نوبل وغيرها من الجوائز العالمية المرموقة. ولكن من ناحية أخرى فإنه من الصعب نفي الجوانب السلبية والمضرة التي تلحق بالعالم جراء الخيارات غير المدروسة والقرارات ضيقة الأفق التي تتخذها النخبة في واشنطن. فمنذ حرب فيتنام، عندما استمرأ المسؤولون في البيت الأبيض طباعة النقود الورقية غير المغطية بالذهب لتسديد فاتورة تلك الحرب، والاقتصاد الامريكي والعالم في مشكلة. فإذا كان الدولار غير مغطى بالذهب فما هو اللحاف الذي يتغطى به ليتميز به بالتالي عن بقية الأوراق الخضراء أو البيضاء أو الصفراء وغيرها؟ ورد الأمريكيون أن الدولار مغطى بالاقتصاد الأمريكي لا يكفي. فالاقتصاد الأمريكي ممكن أن يكون في نمو وممكن أن يكون في تراجع أو كساد مثلما هو عليه الآن. إذاً فالغطاء البضاعي والخدمي للدولار في حال نمو الاقتصاد الأمريكي وفي حال كساده غير متساو. وهذه مشكلة لأن الدولار ليس عملة أمريكية وإنما عملة الاحتياط العالمية الأولى. وترتب على هذه الإشكالية إشكالية أخرى. فطباعة الدولارات غير المغطية قد جعلت الأمريكيين يستهوون هذه العملية السهلة أو فلنقل، إذا حورناها إلى لغتنا، الاتكاء على المساند المريحة. وهذا فخ مميت لأي اقتصاد لأنه يعود الأمة على الكسل. بالفعل فإذا كان بالإمكان الحصول على المرسيدس واللكزيس والمجوهرات والحلي وغيرها دون مقابل فلماذا تكلف نفسك عناء العمل؟ ولكن عندما لا تكفي النقود المطبوعة لسداد فاتورة الاستهلاك فما هو الحل؟ الجواب بسيط : الاستدانة. ولذلك نلاحظ الكل يستدين في الولاياتالمتحدة ابتداء من الحكومة وانتهاء بالمواطن البسيط. فعملية الاستدانة جرى تبسيطها إلى درجة أن السوق الأمريكية عام 2008 تفاجأت بأن المستدينين غير قادرين على سداد ما عليهم فقامت الحكومة بشراء تلك الديون لمنع انهيار قطاع الأعمال. وهذا هو الأساس للمشكلة التي تم حلها بين الرئيس والكونجرس الأسبوع الماضي. ورغم ذلك فأنا متأكد أن الولاياتالمتحدة بقدراتها الجبارة لن تفلس فهي سوف تبقى بلداً رائداً اقتصادياً وتكنولوجياً وعلمياً وثقافياً لسنوات طويلة قادمة. فالذي أفلس، على ما يبدو هو هذا النموذج الاقتصادي القائم على طباعة النقود غير المغطية والاستدانة دونما رصيد لسداده.