اللغة سلطة في ذاتها والسياسة هي السلطة بذاتها ولذاتها، فأما اللغة فالإنسان يفعل بها الفعل على الناس وكثيراً ما لا يكون واعياً بسلطتها ولا بخطرها وأما السياسة فأصحابها لا يتصورون أنفسهم إلا وهم يفعلون الأفعال بالناس على الناس، وبعضهم يمارس اللغة وهو واع بقوتها إذ تشد أزر سلطته، وبعضهم لا يعي أن وزن سلطانه بوزن سلطة لغته، وفي مسافة ما بين هؤلاء وأولئك تزدهر الحياة أو يخبو وهجها. السياسة هي السلطة الحاضرة واللغة هي السلطة الغائبة والذين يصوغون الأحلام الإنسانية يرون أن العالم كان يكون أسعد لو أن السياسة قلصت من حضورها في وعي أصحابها واللغة قلصت من غيابها عن جمهور الناس المحكوميين بالسياسة. منذ صباح التاريخ يوم بدأ الإنسان يدون لمن بعده مآثره كانت اللغة أداة أساسية من أدوات السياسة، لم تكن أهميتها تقل عن أهمية المال وأهمية الاحتماء بالعصبية، غير أن وزن اللغة في استواء أمر السياسة قد تطور بتطور آليات الإنسان في تواصله مع الإنسان، ثم تضخم عندما أصبحت المعلومة ملكا مشاعاً بين الحكام والمحكومين. إن ذاك التطور الذي آل إلى انتصاب اللغة سلطة داخل سلطة السياسة قد مر بمحطات كبرى هي تلك المنعرجات التي آلت بالمعلومة إلى الملك المطلق المشاع: المحطة الأولى نشأة الصحافة، والثانية ظهور البث الإذاعي، والثالثة ظهور البث التلفزي والرابعة استحداث الانترنت، إنها كالمراحل الجنينية التي استوى عليها سلطان اللغة وتم فيها الاعتراف لها بسلطانها، ومنذئذ سيكون من الغباء أن نعزل سلطة السياسة عن سلطة اللغة، وسيكون وجيها ان يسأل السائل وهو ينخرط في ميثاق قراءة الهم الإنساني: أيهما أكثر اقترافا للإثم: سياسي يزهد في اللغة أم لغوي يستهجن السياسة؟ وقد يبحر السؤال بصاحبه بعيدا: أيهما أحق بالكشف: لغوي يحترف تسويغ السياسة أم سياسي يتجنى على اللغة؟ إن اللغة في الوجود أداة مطلقة، وهي في السياسة قيمة مقيدة، ولكنها في الإعلام وظيفة متحكمة، وتجري العادة بأن الناس يهتمون بالحدث السياسي دون أن ينتبهوا ملياً للصياغة التي نحكي بها تفاصيل الحديث، وبذلك تراهم يطابقون بين الحدث السياسي والخبر السياسي، فهم ينزلون الأول منزلة المدلول والثاني منزلة الدال فلا يخطر بالذهن لديهم أن يسعوا إلى تشقيق هذا عن ذاك. لكأن رسالة الابلاغ واحدة لا تصدر إلا عن أداء واحد، أو كأنما الخبر هو الخبر مهما تنوعت صيغه أو تلونت تجلياته، ومن وراء ذلك كأن الإخبار عن الحدث السياسي فعل في مطلق البراءة بحيث لا تنحشر فيه مقاصد صانعه حين يصنعه. عند بداية الوعي بوزن اللغة في صناعة الفعل السياسي ينتابك سؤال ثم يغازلك بتقلباته كأنه ألوان من الطيف تتموج على صفيحة من المعدن المصقول والشمس بازغة عليه: أيهما أشد إغراء وأكثر امتاعاً: أن نبحث في السياسة من خلال اللغة أم أن نبحث في اللغة من خلال السياسة؟ أو قل: أيهما أوقع في النفس وأيهما أجدر بإجلاء الحقائق في زمن دفن الحقائق: أن نعيد اكتشاف الحيثيات التي تصنع سلطة السياسة أم نعيد اكتشاف اللغة كي نقر لها بالسلطة التي كانت محتجبة عنا؟ حين يصدق منا العزم على الانخراط في مغامرة الكشف الجديد ستتبدل أمامنا أشياء كثيرة وستتغير شيئا فشيئا مقاييسنا في ارسال الأحكام الجاهزة على السياسة وعلى اللغة، والرحلة إلى مدارات الوعي الجديد لها جواز سفر وحيد، هو أن نمسك أنفاسنا كي لا تتعجل الحكم القاطع، وأن نجعل مرامنا الذي نتغياه إعادة ترتيب بيتنا الإدراكي، ولن يسلبنا ذلك شيئاً من إرادتنا في اتخاد الموقف الملائم تجاه الأحداث بحسب ميولنا أو بحسب سلم القيم الذي ترتضيه، ولكن البحث في علاقة السياسة بسلطة اللغة يريدنا على أن نفصل فصلا واعياً بين فهم أسرار العلاقة القائمة بين الإنسان ومراداته من الكلام وفهم حيثيات الفعل السياسي قبل تزكيته أو ادانته. ليس مألوفاً عندنا أن نبحث في الآليات المحركة للغة في مجال السياسة لأننا لم نتشبع بعد بنواميس استراتيجيات الخطاب عامة وبقوانين استراتيجيات الخطاب السياسي تخصيصاً، فقد يدفعنا الحدث السياسي إلى الوقوف برهة على اللغة، وقد نستشهد ونحن نبحث في اللغة بقولة جاءت على لسان أحد السياسيين، ولكننا لم نعهد اتخاذ التقاطع بين الظاهرتين مجالا للبحث والاستكشاف، كل ذلك غير متواتر، ولكن الأقل تواترا عندنا هو أن يكون لأحدنا موقفه المعلن من السياسة وأحداثها، وأن يكون له سجله المحفوظ في ذاكرة الجمهور بكل مكونات الخطاب النضالي الملتزم بقضايا الأمة ومرجعيات هويتها، ثم يقدم على تعاطي الشأن السياسي - من حيث هو حدث ومن حيث هو لغة - بمنهج موضوعي يرمي من ورائه إلى إماطة اللثام عن المسكوت عنه كي يتسنى الكشف عن النواميس الخفية المتحكمة في آليات التفكير عند الإنسان. إن البحث في السياسة بتجرد منهجي -و لا سيما عن طريق فنون تحليل الخطاب - يقتضي مصادرة مبدئية هي الحياد الفكري الضامن للتشخيص العلمي، ولكن الموضوعية في البحث اللغوي والدلالي لا تلغي وقوف الباحث على درجات السلم القيمي، بل كثيراً ما يكون الانتماء الأخلاقي والالتزام بمواثيق الحق الإنساني والانخراط في معايير العدل المطلق هي التي تحفز الباحث على أن يرى في علاقة اللغة بالسياسة ما لا يراه غيره، ذلك أن الشائع بين الناس هو أن السياسي يهتم باللغة اهتماماً عارضاً واللغوي يتابع القضايا السياسية بوصفه كائناً اجتماعياً أكثر مما هو ذو خصوصية معرفية. نحن نرى إذن كيف تتعدد دوائر النظر كلما حاولنا القاء النور على الجسور الواصلة بين السياسة واللغة، وتتشعب أدوات الرصد والتحليل كلما خفيت علينا السلطة التي يكتسبها الخطاب، ومرد هذا الخفاء أن مفهوم السلطة يستحوذ عليه الحدث السياسي فلا يخطر على بال الجمهور في الشائع من الأحوال أن يقيم اقترانا بين اللغة وهي ابلاغ واللغة وهي صانعه للفعل السياسي ومحققة لحيثيات انتاجه، أما أن تتحول اللغة أحيانا فتمسي هي جوهر الحدث السياسي في ذاته ولذاته فهذا مما لا يستوعبه الوعي العام الا اذا انبرى الدارس اللغوي يبصره به. بعد لحظة الوعي الأولى بسلطة اللغة في مجال السياسة يكفينا أن نقف عند الكلام السياسي على أنه نص يحكي صدى عالم كامل من المعاني، ويكفينا أن نستل من السياق كل عبارة صنعت دهشتنا في برهة ثم غمرها سيل الأخبار وغطاها تعاقب الأحداث، سنرى بأنفسنا عجبا وسنعيد اكتشاف التوالج المذهل بين كل الدوائر المرسومة أمامنا كالأطياف المتموجة. إن لكل لغة من لغات البشر قوانين تنتظمها وتشد أوصالها بحبل متين لا تراه العيون المجردة كالأسلاك المعدنية التي تتخلل الأسمنت المسلح، وتصبح تلك القوانين أعرافا يتخاطب بها أفراد المجموعة المنتسبين اليها بشكل أصلي أو بشكل طارئ، وداخل تلك القوانين العامة قوانين أقل منها عموما تجعل للكلام الأدبي ترتيباته الخاصة، وللكلام القانوني حيثياته، وللكلام العلمي قواعده ايضا، وتجعل للكلام السياسي ضوابطه وقوانينه بحسب تصور المتكلم للمعايير الشائعة بين أهل ذاك الحقل الشاسع الفسيح الذي لايخرج من تحت سقفه كائن مهما كان، فمن جهل تلك الضوابط والقوانين تحدث في السياسة وهو غافل عن أسرار لغة السياسة حتى ولو كان ماسكا بزمام القرار، ومتربعا على كرسي المناصب، فيأتي خطابه السياسي كخطاب الهواة في لعبة السياسة، ومن علم تلك الضوابط والقوانين وخبرها تحدث في السياسة وهو واع باسرار لغتها، ماسك بأزمتها، حتى ولو لم يكن يوما متبوئاً لمنصب القرار، فيكون إذا تحدث في السياسة قادرا على أداء الخطاب، صانعاً لأنموذج الاحتراف. لا يقوم أمر السياسة ولا يهون موردها إلا إذا آزرها المال وعضدها السلاح، وتلك حقيقة قديمة غدت من بدائه العقول، أما الآن فقوة المال وقوة الاعتاد في حاجة إلى سلاح الخطاب، وجزء من مأساة الجماعة أن اللغة كلما ظن أهلها انها فصيحة بنفسها، بليغة بذاتها، ازدادوا زهدا في علم صناعة الخطاب وفي علم تفكيك الخطاب، فيزداد بعدئذ ابتعادهم على الركب في ملحمة التسابق الكوني على كسب معركة الخطاب.