يقوم المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر في مبنى ابيض من الطراز الاستعماري الإيطالي في مجمع هادئ على أطراف مدينة طرابلس. وقد تم إنشاء المركز قبل عقدين لنشر أفكار الزعيم الليبي معمر القذافي التي ضمها مجلد صغير ذو غلاف اخضر يرمز للانقلاب الذي دبره العقيد قبل 35 عاماً للاطاحة بالنظام الملكي في البلاد. ومن المفارقات ان هذا المركز قام بنشر اكثر من 140 دراسة «جادة» عن الكتاب الذي لا تزيد عدد كلماته عن 21,000 كلمة. غير ان عدداً قليلاً من الناس خارج ليبيا وعدداً متناقصاً داخل ليبيا نفسها يحملون الكتاب محمل الجد. ومثل العديد من الأشياء هنا يحاول المركز تغيير النظرة للكتاب. ويقول ميلود مهدبي مدير الشؤون الخارجية بالمركز وهو يختار كلماته كمن يسير وسط حقل من الألغام «ربما تكون الحماسة قد طغت على أعمال المركز في سنواته الأولى ولكنه الآن يعتبر مؤسسة بحث علمي حقيقية». ويجتهد الكتاب الذي ما تزال اللوحات الإعلانية تروج له كأفضل الكتب مبيعاً في تفسير النظرية العالمية الثالثة التي جاء بها العقيد الليبي والتي تطرقت لأسلوب الحكم والاقتصاد والمجتمع. وقد حفل الكتاب بعدد من الملاحظات التي اقل ما يمكن أن توصف بها بالسذاجة حيث انه يوضح في مقطع منه حينما يتحدث عن الاختلافات بين المرأة والرجل فيقول «الرجل لا يحمل» إلى المتعصبة وذلك حينا ادعى بأن السود في العالم يتكاثرون بلا حدود لأنهم «يمارسون الخمول في جو حار دائم». وفي بعض الأحيان تبدو هذه الملاحظات مشوشة أو ربما مخالفة للبديهة مثل قوله: «إن الصراع السياسي الذي يسفر عن فوز مرشح ما بنسبة 51 بالمائة مثلاً من مجموع أصوات الناخبين تكون نتيجته أداة حكم دكتاتورية ولكن في ثوب ديمقراطي مزيف، حيث ان 49 من الناخبين تحكمهم أداة حكم لم ينتخبوها بل فرضت عليهم، وتلك هي الديكتاتورية». ويدعي الموقع شبه الرسمي على شبكة الإنترنت بأن الكتاب تعرض للقمع بصورة نشطة في الغرب لأن الزعماء السياسيين هناك يعلمون بأن الكتاب الأخضر سوف يصبح هادياً ودليلاً للشعوب الغربية ومن ثم سيجدون أنفسهم يوما عاطلون عن العمل. وفي قمة نشاطه في أواخر الثمانينات توفرت للمركز ميزانية مؤلفة من ملايين الدولارات واصبحت له أفرع في العالم. وقد تمت ترجمة الكتاب إلى اكثر من ثلاثين لغة بما في ذلك اللغات الصربية والسواحلية وتمت مناقشة نظريات العقيد القذافي في مؤتمرات دولية مولتها ليبيا. وقد حاول مسؤولو الحكومة الليبية جاهدين لتطبيق تعاليم الكتاب وتطويع المجتمع الليبي حتى يناسب نظرية القذافي الاشتراكية الطوبائية(المثالية). ولسنوات منعت الفرق الرياضية لصالح «الرياضة الجماهيرية» لأن الكتاب يعلن بان الرياضة نشاط عام يجب ان يمارس بدلاً عن ان يشاهد. ويشير مهدبي إلى انه ليس بصدد الدفاع عن التجاوزات حيث يقول «لقد وقعنا في اخطاء عند تطبيق الكتاب الأخضر نسبة لسوء فهم بعض الناس لما جاء فيه». ومع تأثر ميزانية ليبيا بالعقوبات الدولية وعدم رغبة الدول الواقعة في فلك الاتحاد السوفيتي السابق في استضافة المزيد من السمنارات عن افكار القذافي توقفت الحكومة الليبية عن سداد ميزانية المركز قبل خمس سنوات مضت. وفي اجراء تقشفي تم الاستغناء عن خدمات سبعين موظفاً او ما يعادل ثلثي العاملين بالمركز. ويتدبر المركز شؤونه المالية الآن من الدخل الذي يحصل عليه من سلسلة استثمارات تشمل فندقاً صغيراً ومطبعة ومحلين لبيع الكتب وعدد من المطبوعات. ويقول مهدبي بأنه جرى استدعاؤه من وظيفته كمستشار قانوني للجامعة العربية في القاهرة للمساعدة في تطوير المركز ولاعطاء انطباع جديد للعالم الخارجي بان الكتاب الأخضر ليس فقط تجربة ليبية بل هو شيء مستمد من التاريخ الإنساني بأكمله. ولا يخفي مهدبي ضيقه وتبرمه لدى الإشارات التي تصف الكتاب نفسه بالبدعة حيث يقول «وسائل الإعلام الغربية وحتى بعض السياسيين ينظرون للدول العربية كمصدرة للنفط ومستوردة لكل شيء. انهم لا يقبلون حقيقة ان باستطاعة ليبيا تصدير الأفكار». ويقول مهدبي بأن طلاب الماجستير والدكتوراه في الجامعات الليبية ما زالوا يعدون بحوثاً عن الجوانب المختلفة للكتاب الأخضر مثل دور المرأة او تأثير ما يصفه الكتاب ب«الديمقراطية المباشرة» كوسيلة للحكم مثلما هو مطبق بجلاء الآن في ليبيا على حد زعمه. ولكن المركز يعاني في هذه الآونة من الوحدة وتعلو ارفف كتبه الخضراء الغبار وباستثناء عدد صغير من الزوار الذين يتصفحون مطبوعات تزين أغلفتها صور العقيد القذافي في صالة العرض لا يوجد شيء يدل على الحياة. وحتى العقيد نفسه يبدو وقد فقد الاهتمام بالمركز. ويقول مهدبي «لقد اعتاد على زيارة المركز في البداية ولكنه لم يعد يزوره الآن». ٭ (نيو يورك تايمز خاص بالرياض)