(اكسب كل يوم مليون ريال سعودي) ... تأمل معي غباء هذه الجملة التي أسمعها كل يوم تقريباً في إحدى محطات الراديو .. وفي البداية افترضتُ أن منظميها (يستغبون) الناس مثل بقية المنافسات والجوائز التي أصبحنا نسمعها في كل مكان؛ ولكن حين تكررت على مسامعي أكثر من مرة أصبحت على قناعة بأن منظميها (أغبياء بالفعل) إن كانوا يعتقدون أن أحداً سيصدق وعدهم هذا (... حسنا .. وإن كان البعض كذلك بعد تبخر أحلامه بالوظيفة).. فلا أحد مهما بلغ ثراؤه على استعداد لمنحك مليون ريال (ناهيك عن قذفك بواحد كل يوم). وفي نفس الوقت يمكن أن يكسبوا (هم) مليون ريال يوميا بفضل ادعاءات كهذه تستقطب المستهلكين والمعلنين على حد سواء. وأذكر حين كنا أطفالًا صغاراً أن قيمة الجوائز التجارية كانت ضعيفة ومتواضعة، وتتراوح مابين ألف ، وعشرة آلاف ريال.. أما اليوم فارتفع سقف الوعود إلى حيث أصبح من المعتاد سماع كلمة "مليون" و "ملايين" و "مليونير" في أكثر من جائزة ومسابقة. ومن يسمع عن هذه الجوائز - من خارج المملكة - يعتقد أننا نغرف الأموال غرفاً، وأن الشعب السعودي مايزال يعيش في عصر الثراء والطفرة (...حسناً .. وإن كان البعض كذلك في شمال الرياض)!! غير ان ارتفاع قيمة الجوائز - إن دل على شيء - فعلى انخفاض مستوى الشعب وثراء الجهات المعلنة . فحين تفيض الأموال لايحتاج الناس لدعاية و"مسابقات" كي يفرطوا في الاستهلاك؛ وفي المقابل حين تشح الاموال وينخفض الاستهلاك تتنافس المؤسسات في طرح المسابقات - ويشتري الفقير و"الكحيان" حلم الثراء بآخر قرش في جيبه!! وبالطبع لايوجد قانون يمنع بيع الأحلام والوعود المخادعة ؛ ولكن على الاقل كنتُ أتمنى ظهور مسابقة واحدة راقية - وغير تجارية - هدفها تشجيع الانجازات العلمية ؛ ففي الدول المتقدمة تقدم الشركات والمؤسسات الخاصة جوائز سنوية لتشجيع البحث وكسر حاجز الغموض في هذا المجال او ذاك . وتاريخ العلم يشهد بأن مجالات كثيرة حققت تقدما سريعا بسبب التنافس على مسابقات وجوائز "دسمة" قدمتها مؤسسات خاصة .. .. فإذا أخذنا الطيران كمثال نجد أن رصد الجوائز وتنظيم المنافسات كان لهما أكبر الأثر في تطوره السريع . وقد ظهر تقريبا بعد أول طيران ناجح للأخوين رايت (عام 1903) حين رصدت جوائز ضخمة لمن يكسر آخر رقم في السرعة أو المسافة والارتفاع .. وبالفعل تحت إغراء المال والشهرة قطع لاندنبرج المحيط الاطلسي، وكسر بيتشي حاجز السرعة عدة مرات، وفاز الاستراليان روس وكيث بأول سباق من شمال الارض الى جنوبها! وحتى يومنا هذا ماتزال هناك جوائز علمية معلقة منذ مائة عام أو تزيد . ففي مجال الرياضيات مثلا قدم العالم الفرنسي هنري بايونكير (عام 1904 ) مجموعة من المعادلات ماتزال بلا حل حتى اليوم . وفي ذلك الوقت عرض هنري "الف فرنك" لمن يحل هذه المعادلات وقال إنها ستفسر الكثير من الاسرار العلمية . ولأن "الألف فرنك" لم تعد اليوم مبلغا كبيرا عرض "المعهد الامريكي للرياضيات" قبل سنوات مليون دولار لمن ينجح في حل معادلات هنري بايونكير . وفي عام 2001 فقط أعلن بروفيسور من جامعة ساوث هامبتون ( يدعى Martin Dunwoody) عن نجاحه في حل المعادلات ونشر الجواب في موقعه الخاص !! .. وكان ثلاثة من علماء الرياضيات (هم رون ريفيست، وآدي شامير، وليونارد أديلميان) قد قدموا في عقد الثمانينيات نظام تشفير رياضياً يدعى اختصارا RSA . وكان الغرض منه تشفير المعلومات المتداولة على شبكة الانترنت (الناشئة حديثا) . وحينها ادعوا أن الأمر سيتطلب "ملايين السنين" كي يتم فك شفرتهم المكونة من 130 خانة رقمية . ولكن يبدو ان العلماء الثلاثة لم يقدروا قوة الكمبيوترات في المستقبل وان الشبكة ستستعمل من قبل ملايين الناس ؛ ففي عام 1993 اتفقت مجموعة من الهكرز على شن "هجوم موحد" على هذه الشفرة واستعملوا الشبكة لتنسيق جهودهم في هذا المجال . وفي اقل من عام استطاعوا كسر الشفرة - إلا انهم لم يحصلوا على أي جائزة نظرا لعددهم الهائل وتوزعهم في شتى أنحاء العالم ! أما بالنسبة لمجتمعنا المحلي فمازلتُ بانتظار جوائز علمية راقية ومسابقات ذهنية محفزة من هذا النوع .. (ويكفي استهبال) !!