لم يعد سرا أن عددا من دول الاتحاد السوفييتي السابق باتت الأكثر مناهضة لروسيا وأكثر حدة في توجهاتها غير الودية من أي وقت مضى بل ومن أية دولة في العالم. لكن الأمر لم يعد يقتصر على هذه المشاعر التي لها أرضيتها وجذورها بل تعداها إلى محاولة تكريس تجمع إقليمي معاد لروسيا رغم حاجته الشديدة لها ولمصادر طاقتها. وعلى هذا الأساس يمكن فهم الدور الذي تقوم به منظمة غوام الإقليمية التي عقدت قمتها مؤخرا في العاصمة الملدافية كيشينيوف بعد يوم واحد من لقاء وزراء خارجية دول حلف شمال الأطلسي. نشير هنا إلى أن هذه المنظمة قد نشأت منذ عام 1997 بدعم غربي واضح - وخاصة من الولاياتالمتحدة - في محاولة لخلق ثقل جيوسياسي مناهض لروسيا من خلال الاستفادة من المعضلات الجدية المزمنة بين هذه الدول وروسيا. (غوام هي الأحرف الأولى من أسماء الدول الأعضاء جورجيا -لأنها تلفظ غروزيا - أوكرانيا وأوزبكستان -، أذربيجان ثم ملدوفيا). والهدف الرئيسي لقمة غوام هو إحياء هذه المنظمة - التي ترهلت وهي بعد وليد - وتفعيل دورها بما يتناسب والظروف الجديدة بعد تنامي نزعة الثورات الملونة التي تأخذ مداها أيضا في إطار النزعة المعادية لروسيا ومهمتها الرئيسية - كما يبدو من مجمل المعطيات - هو المساعدة في إنجاز المرحلة القادمة وهي تحقيق ثورة ملونة جديدة في بيلاروسيا هذه المرة وإن كانت بيلاروسيا مقصودة بشكل مباشر فإن روسيا مقصودة عبرها بشكل غير مباشر خاصة أن بيلاروسيا تسعى لتحقيق الوحدة مع روسيا. ومما له دلالته في هذا السياق أن الرئيس الجورجي سآكاشفيلي كان قد أعلن قبل أيام من انعقاد هذه القمة أن ثورة ملونة جديدة ستظهر قريبا في إحدى دول المجال السوفييتي السابق وأن العالم سيعرف من المقصود إبان قمة غوام مما يعني أن التحضير لذلك بدأ منذ حين وترك الإعلان فقط ليكون في إطار جماعي وهذا ما حدث بالفعل وبشكل صاخب يمكن أن يسمى باللغة الدبلوماسية بكل بساطة تدخلاً صارخاً في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة.. لكن أحداً لا يؤرقه مثل هذه الانتقادات أو حتى صدور مذكرة احتجاج من خارجية بيلاروسيا التي باتت علناً جبهة ودريئة بعد أن فرز الكونغرس الأمريكي لدعم المعارضة البيلاروسية خمسة ملايين دولار وبعد لقاء كونداليزا رايس وكذلك خافيير سولانا بممثلي المعارضة البيلاروسية في فيلنوس كمؤشر لاعتراف المجتمع الغربي بهذه المعارضة. المثير في الأمر أن روسيا المجاورة لم تدع للحضور كمراقب ولو شكليا في حين دعي زعماء وممثلون رسميون عن رومانيا ولاتفيا والاتحاد الأوربي والولاياتالمتحدة ورغم أن برنامج العمل تضمن توسيع وتعميق التعاون السياسي والاقتصادي والأمني إلا أن نتائجه اقتصرت واقعياً على أمرين رئيسيين: الأول هو ما أشرنا إليه بالإعلان عن عزم هذه الدول دعم المعارضة في بيلاروسيا بمعنى العمل لتحقيق رغبة الولاياتالمتحدة في الخلاص من نظام لوكاشينكو الذي وصفته رايس بأنه آخر الدكتاتوريات في أوروبا والثاني هو المطالبة بانسحاب القوات الروسية من جورجيا وملدافيا وفق اتفاق مؤتمر استانبول لمنظمة الأمن والتعاون الأوربي لعام 1999 في إطار تأييد دولي ولو مصغر. على أن الإعلانات الطنانة في المحافل شيء وإمكانية تحقيقها على أرض الواقع شيء آخر تماما وكل ما استطاعته قمة غوام هذه هو التعبير عن هذه المواقف وذلك لعدة اعتبارات من أهمها عدم وجود وحدة حقيقية في المواقف فأوزبكستان امتنعت أساسا عن الحضور وربما لم تعلن حتى الآن انسحابها رغبة في عدم إغضاب واشنطن التي لها الكثير من الانتقادات على الوضع السلطوي في هذا البلد الذي يدخل بشكل غير مباشر في قائمة الدول التي قد تنتظرها ثورة ملونة وأذربيجان لا تريد إحراج علاقاتها مع الجار الروسي في ظروف لا تقل خطورة بالنسبة لرياح الثورات الملونة من جهة ولإدراكها أن الكثير من مفاتيح مشكلة قره باخ ما تزال بيد الدب الروسي ناهيك عن بعض المفاتيح الحساسة بالنسبة لمصادر الطاقة ويكفي موقفها حراجة أنها العمود الفقري لمشروع باكو جيحان الذي ينافس الخط التقليدي الروسي أما ملدوفيا فزعيمها شيوعي قام بطقوس الاحتفالات بميلاد لينين بشكل متزامن مع انعقاد قمة غوام وهو وإن كان متحمسا للتوجهات الغربية فإن الغرب نفسه لا يستطيع أن يوليه ثقة كبيرة رغم مد الجسور الكثيرة باتجاه تعميق التقارب مع نظام فارونين بقدر ابتعاد هذا النظام عن موسكو وخاصة على أرضية الخلافات الأخيرة المتصاعدة بين كيشينيوف وموسكو. بهذا المعنى فإن محاولة تصوير قمة غوام على أنها افتتاح جدي لنادي الثورات الملونة افتقد إلى مصداقية موضوعية وكان جل ما استطاع إنجازه هو التلويح بأن هذه المنظمة التي وأدتها الظروف بمساعدة موسكو عادت للظهور بقوة طالما ستشارك فيها بفعالية بل وبدور قيادي أوكرانيا التي تعتبر ثاني أكبر دولة بعد روسيا من دول الاتحاد السوفييتي السابق وبتوجهات مختلفة تماما عما كان عليه الحال قبل الثورة البرتقالية وكل ذلك حسب معظم التعليقات الروسية يأتي بتكليف من صناع القرار في الغرب. من هنا تم التركيز على مسألة انسحاب القوات الروسية من بريدني ستروفي ومن منطقة النزاع الأبخازي الجورجي والدعوة إلى استبدال قوات حفظ السلام الروسية بقوات أوكرانية. ولكن حشر روسيا في الزاوية بهذه الطريقة يمكن أن يفجر الأوضاع تماما في هذه المناطق التي تتمسك باستقلالها وتعلن بوضوح أنها ترغب حتى بالانضمام إلى روسيا وإن شعرت هذه الجمهوريات ذات الحكم الذاتي بأن مصيرها قد يكون كمصير أدجاريا فإنها لن تتوانى عن القيام بتحركات خطيرة لاستباق الأحداث وتوجيه مساراتها لا اللهاث وراء ما يمكن أن يحدث، ولم يكن مصادفة أن تجري أبخازيا مناورات عسكرية واسعة بالذخيرة الحية وفق سيناريو صد هجوم معاد من البحر أي من الجانب الجورجي في هذه الفترة بالذات، كما أن الحرب الأهلية في بريدني ستروفي كلفت عشرات الآلاف من الضحايا وتدرك ملدوفيا جيدا أن في بريدني ستروفي في نهاية المطاف الثقل الصناعي الأكبر في هذا البلد كما أن ممثلي كلا من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وبريدني ستروفي كانوا قد عقدوا اجتماعاً مثيراً أعلنوا فيه عن نشوء تحالف للتعاضد والتعاون المشترك ضد أية محاولات لإخضاعهم بالقوة ومثل هذا الاتفاق لم يكن ليتم دون ضوء روسي أخضر ولو بشكل غير مباشر. ومن الواضح أن منظمة الأمن والتعاون الأوربي ليست معنية بظهور بؤر قتال جديدة خاصة أنها تدرك مدى دموية المآل إن اشتعلت مثل هذه الحروب. حالة كهذه تستدعي الاستفادة من التكليف الغربي الأمريكي بالمساعدة لإحداث ثورة ملونة في بيلاروسيا بحيث يتم توسيع الدور الغربي والأمريكي بالمقابل للضغط على روسيا ومساعدة جورجيا وملدوفيا في الخلاص من الجمهوريات المتمردة التي ما تزال متمسكة بانفصالها وراضية رغم عدم الاعتراف بها بمسألة تكريس الأمر الواقع الذي تخشاه جورجيا وملدوفيا وهذا ما يفسر طرح الرئيس الملدوفي فارونين بأن توسيع التعاون مع الاتحاد الأوربي والولاياتالمتحدة هو الذي يمكن أن يضمن وحدة الأراضي والسيادة والأمن في ملدوفيا وأطروحات سآكاشفيلي أكثر حماسا واندفاعا في هذا المجال. ولكن كيف يمكن لهذه الدول أن تغامر بتحديات سافرة لموسكو؟ وهي تدرك أن وضعها الاقتصادي يرتبط بشكل مباشر بروسيا وبمصادر الطاقة الروسية إلى حد أن أي خلل ولو غير شامل بالتوريدات الروسية يمكن أن يشكل كارثة حقيقة لجورجيا وملدوفيا وأوكرانيا حتى أن عطلا كان قد نشأ لبضعة أيام فقط في خطوط التوتر التي تنقل الكهرباء من روسيا إلى جورجيا قبل فترة كاد أن يوصل جورجيا إلى وضع مأساوي كما أن اعتماد أوكرانيا على مصادر الطاقة الروسية يصل إلى أكثر من ثمانين بالمائة وحين ارتفع سعر الوقود قبل أيام ارتبكت الحياة في أوكرانيا ودفعت برئيسة الحكومة مباشرة إلى عقد لقاء مع رؤساء الشركات الروسية واضطر يوشينكو للاتصال بالرئيس بوتن راجيا حل المسألة - لم يعلن عن ذلك رسميا رغم أن معظم المؤشرات تؤكد ذلك - واتفق على عدم رفع الأسعار لأوكرانيا التي تمر بموسم البذار رغم أنها ارتفعت بفعل ظروف دولية معروفة. الأمر كما يبدو متعلق بسياسة عض الأصابع من جهة وباستغلال ظروف روسيا التي تريد التأكيد على أنها تجاوزت جميع آثام الماضي وليس لها أية مطامع إمبراطورية وأنها تود ولوج المجتمع الغربي كدولة متحضرة معاصرة تحافظ على معايير السيادة والليبرالية بمعنى آخر الضغط على روسيا عبر الاستفادة حتى الحد الأقصى من التحركات السياسية باعتبار أن السياسة هي فن الممكن. هناك جانب آخر يدفع روسيا نفسها لاستخدام فن الممكن بما في ذلك استغلال العامل الزمني فهناك وعد أمريكي وغربي بدعم مساعي دخول روسيا في منظمة التجارة العالمية هذا العام والتقارب مع الاتحاد الأوربي وهناك اتفاقيات عديدة من مصلحة روسيا تحقيقها وخاصة العمل على توسيع الصادرات النفطية الروسية إلى الولاياتالمتحدة ناهيك عن دعم الاستثمارات الأمريكيةوالغربية عموما في روسيا وبالتالي لا تود موسكو الظهور بمظهر المواجه والمعاند رغم أن الأمر بدأ يطال قضايا استراتيجية بالغة الحساسية ففي حين كانت موسكو تحتج بعد انهيار حلف وارسو على كل خطوة تقاربية من بلدان المنظومة الاشتراكية السابقة مع الناتو وتعتبر توسعه نحو الشرق خطأ تاريخيا بات حتى اقتراح دخول دول من الاتحاد السوفييتي السابق نفسه أمرا لا تعترض عليه موسكو حتى أن وزير الخارجية لافروف أوضح بشأن الاستعداد لضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي في لقاء وزراء خارجية الناتو في العاصمة الليتوانية أن هذا الأمر يتعلق بسيادة أوكرانيا وكل دولة تختار مسار علاقتها الخارجية بنفسها وكما يحلو لها باعتبارها دولة مستقلة..!! أخيرا هناك جانب عسكري استراتيجي يعتبر من الخطوط الحمراء على الأقل حاليا بالنسبة لموسكو فقد اضطرت للتخلي عن حليفها أباشيدزة في أدجاريا وامتنعت عن أي تدخل رغم وجود قاعدة لها في أدجاريا هي الفرقة 12 المؤللة واستطاع سآكاشفيلي السيطرة على الموقف بدعم قوي من واشنطن والغرب ووجود تركيا على الحدود الأدجارية ووجود معاهدة قديمة بين موسكو وانقرة بشأن أدجاريا كان يمكن إحياؤها للتدخل إن اقتضى الأمر.. وهذا يعني على أية حال أن الأساطيل البحرية الروسية قد خسرت ميناء باتومي وفي حال تخليها عن أبخازيا أيضا سيعني ذلك خسارة ميناء سوخومي وكلاهما على البحر الأسود وبما أن جميع المؤشرات تدل على أن أوكرانيا ستختلق جميع الإمكانيات لخلق أزمة حول ميناء سيفاستوبل في شبه جزيرة القرم حيث يتمركز قسم كبير من الأسطول الروسي بهدف إبعاده ومع دخول أوكرانيا المقترح في حلف الناتو وفتح الموانئ الجورجية لقطع أسطول حلف شمال الأطلسي أيضا وإذا أخذنا بالاعتبار الحضور التركي على هذا البحر فإن القوة الضاربة ستكون للناتو في البحر الأسود بعد أن كان قلعة عتيدة للأساطيل السوفييتية ثم الروسية كل ذلك مع الأخذ بعين الاعتبار أن بحر البلطيق لم يعد نافذة للأساطيل الروسية بل للناتو أيضا وتحولت حتى القواعد التي أنشئت في زمن الاتحاد السوفييتي في البلطيق إلى قواعد لانطلاق الطائرات الناتوية التي باتت ترصد بطلعاتها عمق الأراضي الروسية. مجمل القول أن اللعبة بين موسكو والناتو وواشنطن دخلت مرحلة بالغة الرهافة وقمة غوام مجرد حركة واحدة على رقعة شطرنج بالغة التعقيد في مرحلة صراع القلاع والأحصنة والأفيال رغم أن الهدف النهائي هو تجميد حالة (كش مات) ولكن بعد الوصول إليها مع الحفاظ على البيادق لتبدو الرقعة من بعيد قليلة الخسائر.