قرأتُ في المنتديات أن بعض المبتعثين يلومون الملحقيات على نوع السيارات التي تستقبلهم في المطار، وقصر مدة إقامتهم في الفنادق على حساب الملحقية، والبعض يطالب ببدل النقل وآخرون يريدون استثناءهم من الضرائب، ولهم كل الحق في أن يطالبوا بما شاءوا، إلا أنني أعتقد أن الطالب الذي لم يتعب ويصيب ويخطئ في تعرّفه على بيئته الجديدة فإنه لن يتعلم الكثير فأفضل أنواع التعلم هو ذلك الذي يتم بالممارسة. قال صديقي غفر الله له: تُركت وحيداً أتأمل وجوها غريبة أجول بعينيّ بحثا عن مساعدة فلا أعرف لها مكاناً. كان اليوم خميساً يوافق الثلاثين من ديسمبر 1993م، والساعة تقترب من الرابعة عصرا، وقد مرت عليه نحو 18 ساعة وهو ببذلته الرسمية وربطة عنقه التي ابتاعها من شارع البطحاء قبيل سفره. فكّر وقرر أن يمارس ثقافة المظهر ونمط الاستهلاك بالسفر على الدرجة الأولى دافعا نحو ربع مكافأته الشهرية. كان يعتقد أن ذلك سوف يضمن له اهتماما بشخصه الكريم ما يشعره بالأمان في ذلك القطار الذي يركبه للمرة الأولى في حياته في يوم قارس البرد، أرخى فيه الظلام سدوله مبكرا... فزاد ضنى الرحلة وحشة ورهبة. تأبط حقيبته تارة تسحبه وأخرى يجرها، ليجد عند بوابة العربة التي قصدها أكثر من يد ممدودة تدفع معه تلك الحقيبة إلى الداخل فالتفت لهم بنصف جسده يوزع ابتسامات الشكر، ولو طاوعه الدمع المتجمد في مآقيه لنثره عليهم تعبيراً عن ضيقه بتلك الحقيبة وبكل ما حوله. تنفس الصعداء وشعر بالدفء في عربة نظيفة أثبتت أنها تستحق المبلغ المدفوع فيها... لم يفوت الفرصة فقد استخرج ملفا تسلمه من الملحقية وراح يقرأ بنهم تعليمات البعثة وماله وماعليه ويضع خطوطا تحت بعض الأنظمة الصارمة مثل مغادرة مقر البعثة، وتغيير التخصص أو الجامعة، وطلب التذاكر حتى لايخالفها. للحظة ترك لرأسه المثقل حرية الارتماء للخلف وأخذ نفسا عميقا غير مصدق ما جرى له منذ فارق بيته ووطنه قبيل منتصف ليلة البارحة.. ويمضي الوقت محملا بالقلق خشية أن يتجاوز القطار محطة الوصول مع أنه لما يبرح لندن الكبرى بعد. أيقظه رجل ضخم فهم منه أنه يريد التذكرة، أخرجها له فتمتم بكلمات صاحبَها تبسم بعض المسافرين: (سيدي أنت في الدرجة السياحية وتذكرتك على الدرجة الأولى) ثم أمسك بيده وقاده إلى الدرجة الأولى وسط مايمكن أن يعتبر (حوقلة) الخواجات من حوله. التفت قبل أن يرتد إليه نفسه باتجاه سيدة إلى جواره ليسألها (آر يو ليدز فروم؟) وأجزم أنها لم تفهم منه سوى نبرة الاستفهام، فأومأت بالنفي. وصل القطار إلى الرصيف في حوالي الثامنة مساء، بعد حوالي 5 ساعات من مغيب الشمس، وبعد معركة مع حقيبته استقل سيارة الأجرة لايعرف إلى أين ... ظلام دامس تتخلله بعض إنارات الشوارع الخافته، والمدينة نائمة والهدوء يغلف المكان ووحدهم سائقو سيارات الأجرة يجوبون المدينة. أشفق عليه سائق التاكسي وأخذه إلى نزل قريب من جامعة ليدز... استقبلته تلك العجوز بابتسامة تبعث على الاطمئنان وأدخلته غرفة لايزيد طولها على 2.5م، وعرضها أقل من ذلك بكثير، ووضعت يديها على صدرها مشيرة إلى اتجاه القبلة. قضى ليلته تلك وهو يرثي لحاله وماهو فيه من تعب وخوف وقلق في مدينة غريبة لا يعرف فيها أحداً، وطقس أغرب، وليل طويل يزحف ظلامه على المدينة منذ مابعد الثالثة عصرا بقليل ولا ينقشع عنها قبل التاسعة صباحا ليسلمها إلى الغيوم الكثيفة في ظل غياب تام للشمس يمتد لعدة أيام وربما أسابيع. كانت ليلة من الطول بحيث كانت كافية لتقديم جرد حساب الماضي والحنين إلى الأطلال، وكانت صورة الوطن تزداد جمالًا مع كل معاناة.. وللحديث بقية.