لست صحفية ولست إعلامية... ولكنني مواطنة أقدّر معنى المواطنة وروحها... سأسرد باختصار موقفاً حصل لي يوم أمس، ولم أجد أمامي إلا أن أنشره من منطلق إحساسي بمسئوليتي الاجتماعية وواجبي الوطني.. توجهت إلى الأحوال المدنية لاستخراج هوية وطنية بدل فاقد، حيث سُرقت هويتي مع حقيبتي التي تركتها لبضع دقائق في السيارة في مكان عام مليء بالحركة ... كُسرت السيارة وأُخذت حقيبتي بكل ما فيها ، وعندما ذهبنا للإبلاغ في أقرب مركز شرطة منا، أعطونا ورقة تفيد بما حدث، وأدلوا لنا بنصيحة غالية! ، مشكورين، وهي ضرورة الانتباه لأن هذا المكان تكسر فيه السيارات باستمرار ويتم سرقة ما فيها... وأفادونا بأنهم يتلقون بلاغات كثيرة مشابهة...ويبدو أن هذا هو كل ما يملكونه من إجراء لمواجهة التعديات المتكررة أعانهم الله، والدين النصيحة... ولاحول ولا قوة إلا بالله! وليست هذه قضيتي.. فعدم اتخاذ أي إجراء لهذا الوضع المؤسف ليست قضيتي الآن. ولكن القضية هو ما حصل في هذا اليوم ، فعندما توجهت إلى الأحوال المدنية لاستخراج بدل فاقد، كان لابد من إحضار صورة شخصية، فذهبت إلى استديو نسائي مقابل للأحوال المدنية بشارع الوشم.. وفجأة دخلتْ استديو التصوير امرأة طاعنة في السن ضعيفة البصر، وكانت تتذمر بشكل كبير لأنه طُلب منها أن تتصور لاستخراج الهوية الوطنية وهي لم تتصور في حياتها، وتسكت قليلا ثم تعاود التذمر من كونها أُجبرت على التصوير، حقيقة وقد مشينا مسافة في حر الشمس من مقر القسم النسائي في الأحوال المدنية إلى أن وصلنا إلى الاستديو، وبنا من الصداع ما يكفي ويزيد، فقلت لها، (يا خالة هذا أمر نظامي، إذا كنت مستاءة لهذه الدرجة، فلا داعي لبطاقة الأحوال، فلماذا تذكرت استخراج بطاقة أحوال الآن وأنت في هذا العمر؟ فقط) ، فقالت لي وبالحرف: (يا بنيتي أنا محتدة علشان الضمان)، وإذ معها أوراق وصك إعسار تثبت حالتها أخرجتها من كيس لا أعلم من أي عهد أحضرته، وقالت يجب أن أستخرج بطاقة حتى أستطيع التعامل مع الضمان.. انتهينا من التصوير، وأخذتُ بيدها وقطعنا الشارع للرجوع إلى مقر القسم النسائي بالأحوال المدنية، وأعطيتها مبلغا بسيطا لا يسمن ولا يغني من جوع .. ولم تكن تشتكي لي حالتها بعد، ولكن (الجواب باين من عنوانه...) وإذ بها ونحن في الطريق تقبل يدي وتحاول الإمساك برأسي لتقبيله!!!! وقالت لي (والله ذبحنا الحر، عايشة في حوش..بيتنا شينكو في الدخل المحدود) ، أردفتْ قائلة: ( المشكلة ماهيب فيني وبس، المشكلة في بنيتي وعيالها الستة اللي عندي..) قلت لها: من معك؟؟ قالت لي: (معي الله ...)، سألتها أقصد من أحضرك إلى هنا: قالت ( الليموزين ... وأخذ مني 15 ريالا) قلت لها: أعطني رقم هاتف منزلك. قالت لي: (ما عندي مكيف... بيكون عندي تليفون....) وأردفت قائلة: (عندي جوال)، أعطتني الجوال وقالت: (ما أعرف كيف أتصل ولا أعرف كم رقمه، أنا أرد عليه وبس...) أخذتُ الجوال وكان في حالة يرثى لها، وطلبت منها أن تعطيني أوراقها لعلي أجد أحدا يتابعها بدلا منها، فقالت لي بل أرجوك أن تأخذي أوراق ابنتي، ووصفت لي حالتهم.. فسمعت مأساة فوق المأساة التي رأيتها بعيني... وقالت لي: (تعالي شوفي حالتنا بنفسك....) وحقيقة كررت عليّ رغبتها في أن أحضر لمنزلها، وبالفعل ذهبتُ إلى هناك، وتعرفت على بناتها ومنهن واحدة تسكن معها بأبنائها... وطلبتُ منها أي أوراق تفيد بالحالة، فأخرجت لي صك دين بخمسين ألف ريال (50,000 ريال)، ودين آخر بعشرين ألف ريال (20,000 ريال )، وأوراق تفيد بالحالة الصحية لخمسة من أحفادها الذين يسكنون معها في هذا (الحوش) .. ووجدت منهم اثنين لديهما تخلف عقلي، والثالث يعاني من مرض الثلاسيميا ويحتاج إلى نقل دم باستمرار، والرابع فقدوه بسبب هذا المرض أيضا، والخامس لديه ورم وعائي دموي في الغدة النكفية بالجانبين مع حول في إحدى العينين وفقدان بصر في العين الأخرى) ، كل ذلك بدون مورد مادي... فالعائد المادي الوحيد هو 800 ريال من الضمان... سألتها كيف تدبر المعيشة لعائلة عدد أفرادها 8 ... وليسوا جميعهم أصحاء... بالإضافة إلى الكهرباء والماء ووووو... فقالت (والله الأكل كله من المسلمين، أيام نلقى وأيام نقضيها أندومي... ) استلمت منها الأوراق... وأنا أفكر.. ماذا سأفعل بهذه الأوراق... حقيقة أخذت منها الأوراق وليس لدي أي خطة محددة لمساعدتها.. قطعتْ المرأة تفكيري قائلة (صوري البيت يا بنيتي ووريه للناس علشان يعطوني بيت ... بس ما أبي شينكو... ) قلت لها: (وهذا بيت مين؟؟) قالت: (ما هو بيتي، بيتي إن شاء الله بتسويه لنا فاعلة خير، جزاها الله ألف خير، تكفلت تسوي لي بيت وبيكلفها مائة وخمسين ألف ريال (150000 ريال)، وبعد شينكو... وأنا يا ابنيتي ما عاد أبي شينكو.... ذبحنا الحر).. قلت في نفسي (كيف سيكون هذا المنزل... وكم مساحته... وأين موقعه...و وووو.... مائة وخمسون ألف ريال في هذا الزمن وفي ظل ارتفاع أسعار العقار فضلا عن أدوات البناء ... كيف ستُوزع !!! ... ) قطعت تفكيري للمرة الثانية قائلة: (أبي أسدد ديني ،،، هذا أهم شيء...) لا أريد الإطالة عليكم بذكر مأساة عائلة سعودية بأكملها، لأنها ليست الوحيدة.. لأني أعرف منذ 8 سنوات امرأة أيضا في الدخل المحدود لا مجال لذكر مأساتها ومأساة بناتها وشدة حاجتهن ،،، وسأختصر حالتها بجملة قالتها لي حينذاك لا تزال ترن في مسمعي: (عساني فدى لرجولك، سلفيني 2000 ريال أكمل الإيجار، ثاني مرة أنطرد من البيت)... استأذنت منها أن أسلم أوراقها لإحدى المسئولات التي اقترحتْ عليّ أن تعرض مشكلتها ومشكلة بناتها في صحيفة إلكترونية، فقالت لي (أي شيء بيطلعني من هالحالة اللي أنا فيها، أنا موكلتك تسوينه، الكل تخلى عني وما معي إلا الله..) لن أذكر أكثر من ذلك... ولكني أناشد أصحاب القرار ومن هم مسؤولون عن التنفيذ في بلد ارتضى الشريعة الإسلامية له دستورا.. في بلد يتبع خطى السلف الصالح .. رضي الله عن السلف الصالح ..رضي الله عن عمر بن عبد العزيز والصحابة أجمعين.. لقد قام ولي الأمر يحفظه الله بدوره ودعم الضمان الاجتماعي بدفعة هائلة من المال وتبقى المسئولية مسئولية القائمين على التنفيذ... إن مثل هؤلاء المحتاجين الذين يصعب عليهم التوجه للضمان واستكمال الأوراق والوثائق، ليس عليهم التوجه إلى الضمان وإنما على الضمان أن يتوجه إليهم، فهو حر الحركة ويملك القدرات وقد حُمِّل الأمانة، وعليه القيام بها كاملة غير منقوصة.. أين المزكون في بلد يحفل بأعداد كبيرة من أصحاب البلايين فضلا عن الملايين.. في بلد النفط .. الذي يؤثر عنه الكرم والجود في منح الدول المحتاجة فماذا عن أهله وناسه؟.. يا أهل المسئولية.. مهما أعطيناهم نحن فإن عطاءنا قليل.. لن يسمنهم ولن يغنيهم من جوع،، وما بأيدينا حيلة... خلصوا ضمائركم وأدوا الأمانة التي أؤتمنتم عليها وأسكنوهم سكنا يضمن لهم الحد الأدنى على الأقل من المعيشة... حاجتهم أكبر من قدراتنا الشخصية... ووالله لا يؤمن.. والله لا يؤمن.. من بات شبعان وجاره جائع! وأنهي مقالي ب ( ألا هل بلغت... اللهم فاشهد...) وسوف أسأُل وتسألون... وسأحاسب وتحاسبون...يوم لا ينفع مال ولا بنون...