العجيب أن مفاهيم مجتمعنا الدينية قبل خمسين عاماً تقريباً - رغم محدودية التعليم وكذا محدودية الاتصال بالمجتمعات الأجنبية المتطورة - لم تكن قائمة بمحرضات وأفكار تطرف ديني غريب المفاهيم ومضحك الآراء.. أعتبر أن جيلي ممن كانوا يعيشون نهايات طفولتهم وبدايات شبابهم محظوظون للغاية وبشكل انفرادي على مستوى عالٍ بنوعية ما اختزنته ذاكرتهم من صور بدايات بدائية تحركت من بيت الطين وتراب شارعه وإيقاع عصى المطاوعة فاقدي البصر حين يخرجون من معهدهم، واتساع فتح عيوننا ذهولاً حين نكون في جدة أو مكة وتحتل اليد زجاجة يقال عنها «شربيت» أو أخرى ملونة تعرف باسم آخر لم أعد أتذكره.. لم يكن هناك ثلاث وجبات في اليوم أو أكثر إذا اقتضى النظام الصحي ذلك.. بل كانت هناك وجبتان واحدة في الصباح يسمونها «هجور» والأخرى عصراً، ثم النوم بعد صلاة العشاء وكنا نسميها «صلاة الأخير».. لم نكن نعرف معنى كلمة «كهرباء» أو «تلفون»، بل السيارة تذهلنا حين نجدها واقفة فنحيطها بدوران ذهول حولها.. ألم يضع أمامها سكان قرية نجدية مرموقة حزمة علف اعتقاداً منهم أنها ستأكلها.. كنا ننام في الطاية «أي السطح» صيفاً وكان «الشرشف» أي الغطاء الرهيف يلتف حولنا حيث إزعاج الناموس أكثر من إزعاج حر الصيف.. لقد تطورنا تدريجياً.. تحسنت مفاهيمنا فلحقنا بثقافة جدةومكة وبعد ذلك لحقت بنا مدن الجنوب.. مع أن في الجنوب «جازان» موقع أصالة الفن وجديد الطرب والثقافة.. لقد أخذنا التعليم والابتعاث ثم الرحلات السياحية إلى اكتساب مفاهيم وعي كنا نفتقدها.. لم نتلق الدراسة إلا على يد مسلم، ولم يكن خطباء الجوامع إلا مواطنين مسلمين، لكن لم نسمع خطبة تدعو إلى الجهاد.. كي نتساءل.. أين؟.. إن صلتنا بالغرب الحضاري من خلال نوعية ثروتنا هي التي فتحت لنا آفاق علم وتطور مع احتفاظنا باحترام إسلامنا ووضوح تعاليمه؛ التي لم يكن من أهدافها نشر عداوات بقدر ما كان من أبرز أهدافها نشر صداقات.. كيف انقلب الوضع رأساً على عقب؟.. كيف توفرت مفاهيم وقدرات بشر تسيء للإسلام أكثر مما لو حاولت أكثر الدول قوة في العالم أن تفعل ذلك؟.. هناك شواهد لنوعية فقه التخلّف المختلق بما حدث في أفغانستان من ميلاد لنظام القاعدة.. ثم مفاهيم جهيمان.. يجرم بحق دينه مَنْ يقول عن ذلك استمرارية إسلامية، بل هو إساءات عربية للإسلام.. ليس هذا نظامنا ولا سلوكنا بشواهد معلنة حين وقف الملك عبدالعزيز في حرب «السبلة» ضد توجهات التطرف لمنع أي جديد علمي من الدخول إلى صحراء البادية.. وحين فرض الملك فيصل تعليم المرأة بحيث انتشر الآن في جميع المدن والقرى وبحيث نافست المرأة الآن كفاءة الرجل العلمية.. بل نحن الآن نعايش أكفاء مواجهة واعية من قبل أمننا ضد تآمرات نظام القاعدة وكذا محاولات تهريب المخدرات.. مستهدفون نحن.. هذا صحيح.. ولذا فبعض مَنْ يحاولون الظهور الاجتماعي، برداءة تطرّف ديني، بعضهم مسيّس ويحاول إبراز اسمه حتى ولو تم ذلك بمواقف خاطئة.. وبالتأكيد فإن التسييس الديني هو أسوأ تكوينات المخاطر، فالذين يحشرون أنفسهم في واجهات مفتعلة وتتعدّد منهم سلبيات ظهور الشجب ضد الآخرين والقول بعدم صحة إسلامهم إنما يريدون الحصول على الاعتراف بوجود أقلية جداً جداً تركض نحو انغلاق التخلف.. التسييس في أي تجمع سكاني، وأياً كان نوعه، هو منطلق مخاطر بذيئة حدثت نماذجها في أكثر من مجتمع..