ساحة الشهداء في قلب العاصمة اللبنانية رمز كبير، ومبهر، وحافز للأجيال الطليعية من أجل استدعاء ذاكرة التاريخ، وقراءة النضالات والتضحيات التي قدمها عروبيون مؤمنون بالإرث الديني، والسياسي، والفكري لهذه الأمة. ساحة الشهداء في بيروت رمز للكفاح، والاستشهاد من أجل محاربة الاستعمار، والمحافظة على مكتسبات وإرث الأمة التاريخي، والحضاري، والإيمان بأن القومية العربية رافد من روافد التنوير، والخلق، والعطاء للإنسانية في مجمل مساراتها لتحقيق العدالة للبشرية، ونشر قيم الحق، والتسامح، والمساواة بين كل البشر على اختلاف ألوانهم، ومذاهبهم، وعقائدهم، ومللهم، وانتماءاتهم. ترمز ساحة الشهداء في وسط بيروت إلى حقبة جميلة من النضالات العربية التي كرست محاولة لصياغة التاريخ العربي المعاصر، وإعادة الوهج لقيم هذه الأمة، ورسالاتها، ووعيها بعد الانتكاسات المخيفة التي برزت في تاريخها منذ سقوط غرناطة، وبكاء آخر ملوك بني الأحمر على ملك أضاعه، ولم يحافظ عليه مثل الرجال..!! لقد مر بساحة الشهداء مؤمنون كثر برسالتهم الدينية الإسلامية، وبقوميتهم العربية من أحفاد محمد، وعمر، وعلي، وأبي ذر الغفاري، وكلهم كانوا يرسخون ويكرسون مفاهيم واعية من التسامح، ونبذ التعصب ومصادرة رأي الآخر، وقمع الأفكار، وفرض التسلط. وكل السلوكيات والمفاهيم التي تعزل الإنسان عن التاريخ وحركته الدائمة والمستمرة، وتحوله إلى كائن انعزالي، متخلف، جامد في أفكاره، وتطلعاته، مسجون داخل كهوف التاريخ. هكذا هي ساحة الشهداء.. وفي كل عاصمة عربية ساحة شبيهة بساحة الشهداء تحكي قصة التاريخ العربي التنويري، وتقول للاجيال يجب أن تكونوا امتداداً واعياً لصانعي تاريخ الأمة بوجهه الحضاري، والإنساني، وأن تناضلوا لكي لا يضيع مفهوم القومية العربية بين الشعوبيين والشوفينيين، ويتشوه تاريخ هذه الأمة العظيمة. وننزلق جميعاً إلى قاع الانحطاط، والتخلف. و... الموت..!! لكن في هذه الأزمنة العربية المجنونة، أزمنة التكهف والانحطاط، والتخلف الذي يمارسه البعض ممن لم يقرأوا جيداً تاريخ هذه الأمة، ولم يتعرفوا بما فيه الكفاية وبوعي وعقل نقدي استشرافي على موروثها الجميل، ولم يحاكموا فترات التراجع ومسبباتها، نجد في هذا الزمن الرديء ممارسات تغيّب العقل، وتصادر الوعي، ونشاهد مئات الاشخاص في ساحة الشهداء يوم الجمعة الماضي يتظاهرون هاتفين بأعلى صوت لرمزيْ القتل والتدمير، واستباحة كرامة الإنسان، وإلغاء تاريخ الأمة العقائدي والسياسي «أسامة بن لادن، وأبو مصعب الزرقاوي»!! وينادون بإمامتهما للمسلمين، وخلافتهما في قيادة الأمة العربية من المحيط إلى الخليج..!! ماذا يحدث..؟؟ هل من عاقل في هذه الأمة يهمه انبعاثها، وتميزها، واستعادة أمجادها في صناعة التاريخ، وصياغة مستقبلات إنسانها يمكن أن يهتف للزرقاوي، وابن لادن، وينادي بقيادتهما للأمة الإسلامية؟. وأين..!؟ في ساحة الشهداء في بيروت، المدينة الليبرالية المتصالحة مع كل الأجناس والأديان والطوائف..!؟ إنه هتاف للقتل، والإجرام، واستباحة الدماء، وترويع الناس، والقضاء على كل إرث هذه الأمة..!؟ إنه زمن غياب العقل..!! إنه عقل مريض..!!