أشرتُ في مقال الأسبوع الماضي إلى برنامج "نطاقات" الذي أعلنته وزارة العمل وتوقعتُ - بل وتمنيت أيضاً - أن لا تعتبر الوزارة أن هذا البرنامج سيحل مشكلة البطالة التي طال أمدها، وتعاظم خطرها، وقلت أيضاً إن مشكلة بهذا الحجم لايمكن حلها جذرياً من خلال برنامج واحد ينظر إلى القضية وكأن المسألة لا تتعدى توفير "أي فرصة وظيفية" للشاب السعودي الذي سئم الانتظار بملفه الأخضر "العلاقي" أمام مكاتب العمل أو في أروقة الشركات والمؤسسات. من هذا المنطلق يمكننا أن نعتبر برنامج "نطاقات" أحد الحلول المؤقتة الذي يمكن إذا أُحسن تنفيذه أن يمتص الحالات المتطرفة في موضوع السعودة، سواء أكان ذلك من جانب العرض، فتتحرك الشركات المتلكئة والمترددة، أم من جانب الطلب فيقبل الشاب السعودي بأي وظيفة حتى لو كانت لا تتوافق مع تخصصاته وإمكاناته أو مع طموحاته وتطلعاته. لقد جربنا كثيراً من الحلول المؤقتة أو قصيرة المدى، مثل قرار السعودة ووضع الحد الأدنى لوظائف السعوديين في القطاع الخاص، وكذلك الدعم الذي يقوم به صندوق تنمية الموارد البشرية بتحمل 50% أو أكثر من أجور السعوديين في الشركات والمؤسسات الخاصة إلى غير ذلك، ولكن تلك الحلول لم تكن شافية وكافية لمعالجة هذه القضية. أما لماذا فلأن تلك الحلول لم تنطلق من استراتيجية شاملة تراعي كافة معطيات المشكلة، وترسم خريطة طريق لحلها على فترة زمنية طويلة نسبياً. قد يقول قائل، إننا قد سئمنا من مصطلح "الاستراتيجية" ، وقد ثبت أن إجراءات إقرار الاستراتيجيات طويلة ومرهقة، حتى إن بعض الاستراتيجيات عندما تصدر، تجد أن المعطيات الاقتصادية والاجتماعية قد تغيرت، كما أن "نَفس" بعض الأجهزة الحكومية قصير، فما أن يتغير الأشخاص المشرفون عليها من وزراء أو كلاء وزارة، فإن من يخلفهم يرمي بكل ما سبق، ويبدأ من جديد. صحيحٌ لقد سئمنا من كلمة "استراتيجية" ورأينا أنها كلمة تحلق في الفضاء، وتقدم تنظيراً لا فائدة منه، ولكننا نحتاج فعلاً إلى سياسة متكاملة وفاحصة لموضوع توطين الوظائف بغض النظر عن ظاهرة البطالة وحجمها ومشكلاتها. فإذا استطعنا أن نضع سياسة واضحة لموضوع "السعودة" في القطاعين العام والخاص بناء على الظروف الاجتماعية والاقتصادية للبلد، فإن مشكلة البطالة ستنحل بصورة آلية، دون أن نتخذ حلولاً جراحية مؤقتة قد تكون نتائجها إيجابية على المدى القصير، ولكنها سلبية وربما كارثية على المدى الطويل. في تقديري أن الاستراتيجية المطلوبة يجب أن تركز على تحديد القطاعات والمجالات التي يمكن أن تنجح فيها "السعودة" بامتياز، بدلاً من أن نتعامل مع السوق وكأنه كتلة واحدة، وبدلاً من أن نشتكي من العمالة الوافدة في مجالات لايمكن أن يعمل فيها السعودي مهما كانت ظروفه ومستواه الدراسي، فإنه يمكن أن نركز على قطاعات معينة، وعلى وظائف معينة، ونبذل جهودنا لرفع كفاءة الموظف السعودي للنجاح في تلك المجالات التي يتوفر فيها أصلاً عوامل النجاح الذاتية من مستوى معقول للأجور، وتوفر الحد الأدنى للأمن الوظيفي، وتوفر النظرة الاجتماعية الإيجابية. لو أخذنا على سبيل المثال ثلاث قطاعات مهمة وحيوية في الاقتصاد الوطني ونجحت فيها برامج السعودة وهي البنوك والمصارف، وشركات الاتصالات، وشركات الصناعات البتروكيماوية، وحاولنا تحليل أسباب نجاح السعودة فيهما لرأينا أن هذه القطاعات تقدم مجالات عمل جيدة للشباب السعودي سواء من ناحية الأجور، أو توفر الاستقرار الوظيفي، أو النظرة الاجتماعية المقبولة للعاملين فيها. ألا يمكن بناءً على هذا النجاح أن نحوّل عدداً من القطاعات الحيوية مثل شركات تقنية المعلومات، والمستشفيات والعيادات المتخصصة، وشركات التأمين، والشركات الزراعية الكبرى، وشركات التعليم الخاص، إلى قطاعات مستهدفة للسعودة، فنضع سياسات وظيفية خاصة بهذه القطاعات بحيث نحفظ للشركات نمواً طبيعياً، وفي نفس الوقت يحتل فيها شبابنا معظم الوظائف الإدارية والفنية، بدلاً من أن نركز جهودنا على القطاعات التي يتميز فيها العامل الوافد بميزات نسبية لا يستطيع السعودي أن ينافسه فيها، مهما وضعنا من عقبات أمام الاستقدام، ومهما وضعنا من برامج للتدريب، ومهما وضعنا من حوافز للتوظيف؟!