في إحدى القرى الصغيرة جداً التابعة لمنطقة الرياض حدثت حكاية طريفة رواها لي أحد أبناء هذه القرية قال: افتتحت المدرسة الابتدائية في قريتنا في بداية الثمانينيات الهجرية بعد تنافس مع بعض القرى المجاورة، حيث فازت قريتنا لزيادة في عدد أفرادها تقدر بثلاثة أطفال، فصارت القرى المجاورة تابعة لمدرستنا يأتي ابناؤها كل صباح.. وكنا نفخر بذلك ونعده انتصاراً عظيماً في تاريخ القرية.. افتتحت المدرسة بعدد قليل من المدرسين ثم تواردت الأنباء أن مدرساً «وافداً» من بلد عربي سيأتي إلى مدرستنا قال: وكنا نعتبر ذلك مفخرة لنا ولقريتنا أمام القرى المجاورة التي باءت بالهزيمة والفشل أمام نجاح وانتصار قريتنا المبهر.. وتأكدت الأنباء حول مقدم هذا المدرس، فتطلعت القرية إلى وصوله. وذات يوم خرجت القرية عن بكرة أبيها تتطلع إلى سيارة البريد التي سوف تقل الأستاذ الجديد، وما أن وصلت السيارة حتى تحلق حولها الجميع كباراً وصغاراً، وأخذوا يحيون المدرس، وينقلون عفشه ومتاعه إلى بيت استأجروه وفرشوه له وأثثوه بدون مقابل.. ثم أخذوه إلى بيت شيخ القرية حيث اقيمت وليمة كبيرة على شرفه.. وكان أهل القرية قد اقسموا عليه ألا يطبخ في بيته وأنهم سوف يتولون أكله بالتناوب كل يوم عند شخص.. فطوراً، وغداء، وعشاء، طيلة العام..!! بات المدرس تلك الليلة قرير العين، مذهولاً بهذا الكرم وهذه الأريحية التي لم ير ولم يسمع بمثلها.. فلقد وجد بيتاً مفروشاً، وأكلاً مضموناً، وتقديراً يفوق كل تصور وتوقع.. وفي اليوم التالي.. وبعد صلاة الفجر مباشرة، أخذه الذي وقع عليه الدور إلى بيته وقدم له وجبة الإفطار، وكانت عبارة عن خبز البرّ المنقع في السمن، وكانت تلك المنطقة مشهورة بزراعة البر، وأخذ المضيف يحثه على الأكل احتفاء وإكراماً.. ثم اتبع ذلك بطاسة من اللبن الرائب.. بعدها توجه المدرس إلى المدرسة، وقد أحس بعطش شديد بعد هذه الوجبة الدسمة الغريبة عليه.. فصار يطفئ عطشه من ماء القربة.. وجاء وقت الغداء بعد إغلاق المدرسة، حيث وجد مضيفه الكريم ينتظره عند بابها.. وبعد تناول القهوة والترحيب الحار، رميت السفرة وجيء بصحن مليء بالجريش المغرق في السمن. أخذ الأستاذ يأكل وقد استطاب طعم الجريش الذي يذوقه لأول مرة، ويستجيب أيضاً لرغبة مضيفه الذي أخذ يلح عليه ويقسم الايمان المغلظة ان يستمر في الأكل. أكل، وأكل، حتى لم يبق متسع. لكن المضيف بادره بغضارة من اللبن الخاثر الطافح بالزبد، قائلاً له: ان هذا النوع من الأكل لابد أن يتبع باللبن. شرب المسكين في استسلام وإذعان قهري، فهو أمام هؤلاء الطيبين لن يستطيع أن يقول: لا، مهما كلفه الأمر. كاد بطن الأستاذ ان ينفجر، ووجد صعوبة في القيام والقعود، بل وجد صعوبة في التنفس.. وكان بديناً ملحماً فأخذ يلهث ويتحرق ويفتح أزرار قميصه، ويحل حزام بنطاله.. وقبل أن يضع ظهره على المسندة ليرتاح قليلاً، أذن مؤذن الظهر، وكان الوقت حاراً في نهاية الصيف، والمسجد يقع في طرف القرية.. خرج مع مضيفه إلى المسجد وهو يلهث من الانتفاخ ومن حرارة الشمس التي تلهب دماغه.. ولم يكد يصل المسجد إلا بجهد جهيد وعناء ومشقة، وقد أحس بغثيان واضطراب في تنفسه، ودقات قلبه.. وما كاد يدخل في الصف مع المصلين حتى أصيب بإغماء ووقع!! قطع المصلون صلاتهم وتحلقوا حول مدرسهم، وقد أذهلهم وقوعه.. فدلقوا عليه قربة من الماء فتنفس قليلاً، وكان قد شحب وجهه واصفرّ.. ولكنه لم يستطع النهوض، وقال بعض القوم: ربما أنه مصروع «أي به صرعة».. فصار الإمام ينفث على صدره ويقرأ في أذنيه.. ولكن لا فائدة فقد انتابته حالة الغثيان، والدوار من شدة الضيق، واكتراب البطن الذي تحول إلى كرة من الأكل والهواء المضغوط.. وحاروا في أمر مدرسهم ثم ذهبوا إلى شيخ كبير مقعد يستشيرونه في الأمر وكان لديه شيء من الاستطباب الشعبي فقال ربما ان الرجل «مغتث» من كثرة الأكل وعليكم أن تكووه في بطنه عاجلاً. تراكضوا وأوقدوا النار وقد أحموا محشاً «منجلاً» حتى صار لونه أزرق، ثم كشفوا عن بطنه وكواه أحدهم فوق سرته «بظهر المحش» طولاً وعرضاً، فصرخ الأستاذ مرتين أو ثلاثاً.. وقد تعارك صوته مع رائحة الشياط في هواء المسجد الحار، ثم همد وصار يئن أنيناً مفجعاً، فقال الإمام: يمموا صاحبكم فالظاهر انه سيموت.. من حسن حظ المسكين أن سيارة عابرة مرت بالقرية فاستوقفوها وحملوا مدرسهم إلى الرياض فذهبوا به إلى المستشفى المركزي حيث تم علاجه وإنقاذه بأعجوبة.. غير ان المسكين حين صحا إلى نفسه وجد في بطنه كياً ضخماً على شكل صليب فصار يولول ويعول ويصيح وهو يقول: يا ناس خافوا الله دخلت قريتكم صحيحاً فخرجت مريضاً، ومسلماً فأصبحت صليبياً.. لا والله لا أذهب إلى قرية «الجريش» هذه أبداً.. أو ردوني إلى بلدي..