يقول الفيلسوف "ماثيو أرلوند" في كتابه "شاطئ دوفر": «...العالم الذي يتمدّد أمامنا كأرض من أحلام متنوّعة وجميلة وجديدة، ليس فيه فرح ولا حب ولا ضوء. إنه مجرد فضاء؛ ونحن الموجودون هنا وكأننا في سهل مظلم، نملؤه بالتحذيرات المضطربة من الصراع والهرب، أو بالحب والسلام والنور». إن الإنسان هو الذي يخلق البيئة ويشكّلها باللون الذي يريده؛ وحينما نجد بيئة جميلة فذلك راجع بالدرجة الأولى إلى الإنسان الذي وهبها من جمال روحه وعقله فظهرت بصورة إيجابية، في مقابل البيئات المقفرة من الحب والتي تملؤها الصراعات والقلاقل، وهي التي ساهم الإنسان في تشكيلها بهذا الوضع السلبي. ولكي نتأكد من مصداقية مثل هذه الفرضية، فإن التحليل الذاتي لأنفسنا يُساعدنا على تأمّل العالم من حولنا، وكيف نفهمه ونتعامل معه وفقًا لفهمنا. يؤكد "جيمس ساير"، مؤلف كتاب "العالم في الباب المجاور"، أن التحليل الذاتي هو واحد من أهم استخدامات تحليل النظرة إلى العالم. فعندما تُصبح واعيًا لفهمك للطبيعة الأساسية للواقع، وتكون قادرًا على أن تقول نفسُك ما تؤمن به تجاه الكون وذاتك والعالم من حولك، فهذا هو الأكثر أهمية؛ لأنك ستكون قادرًا على عيش الحياة المثالية المدروسة. إن تحليل ذاتك لا يضمن لك أن تكون على حق، لكنه يعني أنك تعرف المكان الذي تقف فيه. عندما كنتُ أقوم بتدريس مقررات تتطلب تحليل وجهات نظر مختلفة، كنت كثيرًا ما أطلب من الطلاب أن يقوموا بعمل مثل هذا التحليل الذاتي لأنفسهم. ورغم سهولة هذه المهمة إلا أنها محيرة وصادمة أحيانًا. إن القيام بذلك بشكل جيد لا يعني أن تسأل نفسك ليس فقط عما ترى أنك تعتقده حول ما هو حقيقة حقًا، ولكن حول ما تُخبرك به حياتك عن ماهية نظرتك إلى العالم. وعلاوة على ذلك، فإنّ التحليل الذاتي غالبًا ما ينطوي على تحديد التغييرات الفكرية والعاطفية الرئيسية والتطوّرات الخاصة بك. إن الشخص الذي تربّى في قرية وعاش في مزرعة مع الطيور والحيوانات الأليفة، وشعر بالعالم الحي من حوله، وراقب طلوع الشمس في الصباح، وغروبها في المساء، وتابع النجوم والقمر، وأحس بظلمة الليل، وسمع أصوات الطيور في الصباح وأصوات الحشرات في المساء، وشمّ روائح الزهور وأوراق الشجر، ومشى على الأرض النديّة بقدميه الحافيتين، وأمسك الأغصان والثمار بيديه، واغتسل بالماء من الساقية، وأوقد النار من الحطب والأغصان، واستنشق رائحة الدخان، وأبصر حركة الهواء وانتبه إلى تمايل الأغصان والسنابل، وعرف ألوان الثمار وطعمها، وارتسمت في ذاكرته هذه التفاصيل العديدة مع ظروف الحياة التي يعتورها مرور الزمان وتغير المحيط.. إن هذا الشخص يملك رؤية للعالم تكوّنت من البيئة تختلف عن زميله الشخص الذي يعيش في المدينة، ويسكن في شقة صغيرة لايدخلها الضوء، محاطة بالجدران من جميع الجهات، ولها باب وحيد، تعتمد على الأجهزة الكهربائية في الإضاءة والطبخ والعمل، وتمتلئ بالزهور الصناعية والتحف واللوحات الفنية. نشأ وهو يشاهد التلفزيون ويسمع أصوات السيارات من خارج الشقة، وقته محصور بين التلفزيون وألعاب الكمبيوتر، وإذا خرج من الشقة ركب السيارة مباشرة؛ لم يسمع إيقاع صوت المطر إلا ضربات على نافذة الشقة أو زخات تقع على زجاج السيارة، لم تطأ قدمه التراب ولم يصعد شجرة ولم يصغ إلى صوت عصفور، ولم يعرف الطبيعة إلا من خلال الصور المتخيلة. يكفي أن إيقاع هذا الشخص الموسيقي يختلف تمامًا عن إيقاع زميله السابق، ومن الإيقاع ننتقل إلى الرؤية المختلفة عند كل واحد منهما..