تمهيد: (1) كتب في إهدائه ما يلي: ..... ترى هل ترافق الأدميرال كما وعدته؟؟! أتمنى لك الود عمرو العامري 10/1/2011م. وكتبت في حينها: سوف أفعل إن شاء الله 6 صفر 1432ه. * * * (2) وبدأت رحلة المرافقة.. وبعد ثلاثين ورقة مما مجموعه 183 صفحة وعشرة أيام بين قراءة وتصفح كتبت ما يلي: بدري جداً يا رفيقي العامري.. بدري على كتابة المذكرات.. ولكن ما بين يديَّ غنيٌ برؤاك وأفكارك الفردية ومستقبلياتك الراشدة.. فكانت مذكرات أكثر نباهة وغنى وجاذبية، من مذكرات الموتى والراسخين في المجد والثقافة!! 16/2/1432ه. * * * مثاقفة وتجليات: (1) ترى ما الذي شدَّ قارئاً – مثلي – للتثاقف والتماهي مع إصدار ثقافي جديد آخذ في الذاتية، والنرجسية "ربما"؟! أقول لكم: إنهما الصفحتان 16، 17 ففيهما فاتحة تأخذ باللُّب!! تشدك شداً إلى عمق النَّص وفضاءاته. إنها اعتذارية إبداعية، إنها حكم وتجارب. إنها اعترافات أديب صادق مع نفسه ومع قرائه المحتملين المتمكن "مثلي". وإليكم بعض التفاصيل المدهشة: الحكم والتجارب: في هذا الملمح يقول: الحياة أشبه بساعات من الرمل.. تسقط ذرة ذرة.. المؤلم "ربما" أن ساعة الرمل تقلبها لتعود من جديد.. أما الحياة فلا تُسْتَأنَف.. نعم هي أشبه بساعة رمل ولكن لمرة واحدة ووحيدة. ويقول: "لم أعد منبعاً وغدوت قريباً من المصب.. عدت أتلفت إلى الوراء إذا ما أردت أن أرى الأجمل.. وشجرة تهز أغصانها الريح لتساقط أوراق ذكرياتها وبوحها وتذوي". الاعترافات: "سأخترع حكايات وأكاذيب صغيرة.. أكاذيب لن تغير وجه العالم ولن تؤجل طلوع الشمس في الغد.. وسأقول لكم إنها أكاذيب أكذبها لأتجمل.. ولتغدو الحكاية أجمل..". الاعتذارية: "أجمل حكاياتي تلك التي لا تقال، تلك التي دفنتها في أقاصي أدراج القلب وطوحت بمفتاح ذلك الدرج إلى لا مكان". " فقط تسلحوا معي بالصبر والتسامح وقبول القليل". هذه المفاتيح الثلاثة، سيجد القارئ الحصيف لها تشظيات عديدة ونماذج متكررة في متن هذا النص "السرد/سيري". مما يدل على أن المؤلف/ الأدميرال، أراد من هذه الإشارات التمهيدية أن تكون عتبة نصية تشي بمفاتيح ورموز لما في داخل النَّص من عمق وجدلية، وأسلوب رصين وفضاءات نصية متجاوزة وإبداعية!! * * * (2) رفيفي الأدميرال – العامري – من البداية يضعنا أمام حكايات. ويعترف لنا أن ذلك دلالة كبر السن.. حسناً أخي الأدميرال وليكن ذلك فما أجمل الحكايات التي تتدثر بالصدق، والفاعلية، والمنجزات وهي كل المبررات التي تصوغ للمبدعين كتابة حكاياتهم/ منجزاتهم في الحياة!! أنت واحد منهم... عرفتك مثقفاً.. قاصاً.. لك حضورك الأدبي من خلال أمسيات نادي جدة الأدبي وجماعة حوار، لم نكتشف حينها أنك في القطاع العسكري وصاحب رتبة كبيرة!! عرفناك قاصاً ومحاوراً وصاحب رؤى نقدية وملاحظات ثقافية، لم نعرفك أدميرالاً إلا مع هذه السيرة الذاتية فهنيئاً لنا بك!! * * * (3) من الجماليات الآسرة في هذا النَّص السردي/ السيري، التواشج البهيج بين النَّص والصورة بدءاً من الصور العسكرية التي توجت الزاوية اليمنى من الغلاف الخارجي ومروراً بالصورتين اللتين تعلوان كل صفحة فواحدة بالبدلة العسكرية (اليمنى)، والثانية بالغترة والعقال/ اللبس المدني (اليسرى). وانتهاءً بالألبوم الذي انتقاه ليصدر به كل فصل من فصول الكتاب/ السيرة. ويختتم بها كل فصل أيضاً حيث يختار لنا/ القراء صورة معبرة لعلنا نحاول سبر أغوارها ودلالاتها التي تبثها كشفرات ومفاتيح نصية يتعامل معها الناقد/ القارئ، والناقد/ المحترف!! ولعلِّي أقول – هنا وفي هذه الجزئية بالذات – أن كل الصور وقراءتها دلالياً تتمحور حول اللونين الأبيض والأسود وما يبثه هذان اللونان من معان ودلالات، كما تتمحور حول ثنائيتي العسكرية والمدنية، الخفاء والتجلي، الغموض والشفافية، التي تغلف حياة الكاتب والمثقف.. وكل هذه إشارات ضمنية قد تفسر ما جاء في النَّص من ثنائيات يحفها الغموض وتحتاج إلى التأويل عبر هذه المداخل النقدية!! * * * عمرو العامري (4) ومن الجماليات النصية في هذا السرد/ السيري تلك اللغة الناضجة، والمفردات الفاتنة، والإيقاعات الشعرية المتوازنة الدالة على ثقافة الكاتب وعمقه المعرفي، وقدرته التجديدية، وبناء اللغة الإيصالية والمعبرة والنافذة إلى قلب كل قارئ لديه إحساس بالجملة الشعرية والمفردة المنمقة. وإليك بعض هذه الجماليات من وجهة نظري كقارئ/ ناقد: (1) "ومن يصدق أنني كنت ذلك الطفل السقيم الذي جاء دون فرحة، والطفل الثالث يأتي دائماً بفرحة قليلة وحضور منتظر.. الطفل الثالث تحصيل حاصل وتأكيد للمؤكد ولا أكثر". ص 31. (2) "غير أنه عندما لا تكون في حياتنا مكتسبات كثيرة.. نفضل الحديث عن ذاتنا.. عن أنفسنا.. نخترع حكايات ومنجزات لم توجد، ونصنع من كهوف الريح مساكن للروح ونتحدث" ص 40. (3) "الحياة فرصة تطرق الباب مرة واحدة ولا يجوز أن تضيع.. لأنها إن ذهبت فقدت للأبد والحياة أغنية ذات مقطع واحد.. وأنها شهقة طويلة وممتعة ولا أكثر" ص 60. (4) في مدينة لاكلدولير إحدى ضواحي طولون في فرنسا: "تصلنا وشوشة موج البحر الأبيض وغناء النوارس العائدة من طيران الجنوب بعد رحيل الشتاء" ص 93. (5) في الأندلس يصف برشلونة: "لذلك الشاطئ المشمس جمال لا يوصف قرى صغيرة تُحاصر البحر وبعضها يتوسد التلال الخضر.. مدن مباحة للصادين والعشاق ونوارس البحر وللمطر" ص 93. (6) "وأجوس القمرى وما حولها، أتنقل هنا وهناك.. أغسل روحي من وجع الرحيل ومن أضواء النيون.. النفط الحكايات والأحاديث وأتأمل الوجوه..." ص110. (7) "قصر الحمراء قصة من الندم ودموع من الحجر (ولا غالب إلا الله...) كان مكاناً ككل الأمكنة ولكنه كان مثقلاً بانكسار اللحظة، لحظة التحول وانطفاء آخر قناديل الشمس العربية في تلك الأرض التي لم تعد بعد ذلك عربية" ص142. وأخيراً، أقف عند أجمل مقطعين يحملان لغة متوهجة وآسرة: (8) وفي البحر رأيت صديقي القمر كما لا يرى إلا هنا.. رأيته كيف يغدو جميلاً جمالاً قاسياً حين يكتمل وكيف يحيل البحر كل البحر إلى أنثى عاشقة مغمضة العينين تنتظر المشتهى. ورأيت النجوم شواهد الزمن وما خبأ العابرون.. النجوم في البحر خرافة أخرى أعدادها اللانهائية وسطوعها المربك شيء مختلف.." ص 136. (9) عدت إلى جدة.. وكانت وفاء ترمم أحزانها وتعيد ترتيب أركان حياتها.. والموت كالميلاد يعيد تشكيل الحياة والناس وموقعنا من هذا العالم.. الفقد كالميلاد يصنعنا من جديد ويظل فقد الأب للأنثى كسقوط مجرة في سديم لانهائي وانتظار مجهول تعيد تشكيله الحياة من جديد.. أخي حسين تشاطرت معه نهدة الصبا والأحلام والسنين الخضر ومنه تعلمت اكتشاف مفاتيح الجسد وأول المزامير في قاموس العشق.. وقراءة لغة السحاب ووشوشات الريح وأسرار الطين وما يتلى من ليل القرى..." ص 154. من هذه المقتبسات النصية تتجلى اللغة في أسمى مظاهرها وأجمل كينونتها وصياغتها على يد هذا العسكري الذي جعلني أكتب تعليقات انفعالية إعجابية حول تلك العبارات: * " لغة فاتنة/ تصويرية/ شاعرية!! من أين لك كل هذا يا عمرو!!" * "لغة فاتنة والله!!" * "هل رأيتم عسكريا يكتب بهذه اللغة الباذخة/ الفاتنة حد الغواية؟!" * * * (5) ومن أهم الفضاءات الإنسانية التي يبررها هذا النص السرد/سيري تلك الوقفات الإيجابية من المؤلف/ الأدميرال مع شريكة حياته التي أفرد لها فصلاً كاملاً تحت عنوان استفزازي للقارئ "زوج من الأحذية" (ص ص 75-79) لكنه يحمل من الجماليات النصية، والحمولات الإيجابية تجاه المرأة، ما يجعله إنسانياً بكل معاني الكلمة وتشظياتها، فهو يقرر منذ البدء وقوفه مع المرأة – أياً كانت – فما بالك إن كانت زوجته وشريكة حياته؟ اسمعه وهو يتحدث عن بنازير بوتو رئيسة وزراء باكستان عندما قتلت "... وبئست أمة ترى في قتل النساء شهادة وتقرباً لله" ص 47. بكل هذه الإيجابية مع جنس الأنثى/ المرأة، نراه يعيش نفس الحالة الإيجابية مع زوجته الأولى التي كانت قريبته ويصفها بأنها "طيبة وبسيطة وقنوعة وتحبني.. كما أحمل لها ألفة قربى وظلال حب غذته سنوات التغرب وخيال الشباب وروايات المنفلوطي. لكن الحب غير الزواج والحلم غير الواقع، وتم الزواج والطلاق في شهر لا أكثر...". ورغم حصول الطلاق لكنه يحمِّل نفسه كل الأسباب، يقول: لم تكن هناك أسباب كبيرة لذلك الفشل، كانت هناك أسباب لكنها كانت قابلة للحل وتحدث دائماً وكل يوم، ولكن الشباب الذي لا يقبل أنصاف الحلول والجهل بطبيعة الأشياء والعلاقات والشعور المزيف بالكرامة وربما الافتقار إلى النبل والأنانية المطلقة.. حطم كل شيء. وافترقنا ولا ذنب لها، كان خطئي أنا وغلطتي أنا فقط ولا أحد سواي.. وأتذكر انها لا تقرأ ولن تقرأ هذا الكلام أبداً وإلا كنت طلبتها غفراناً لا أستحقه..". هذا قمة النبل والخلق تجاه قريبة/ طليقة يتحمل وزر وألم كل ما حصل لها وله في بداية حياة زوجية، ولكنه الدرس الذي لا ينسى وسيفيده في تجربته الثانية والأخيرة حيث زواجه من شريكة حياته وفاء عبدالله العودي/ البنت المكية "ذات الثقافات المتعددة والتنوع الغَنِيّ والرقة الحجازية العابقة" كما يصفها ص78. ولنقرأ بعض العبارات التي قالها في هذه الشريكة/ الزوجة/ الصديقة: (1) "جئت معي بوفاء زوجتي.. والزوجة الوفية وطن شاسع وطن يقهر عنك جور المسافات ويجعل كل السماوات رحيمة" ص 72. (2) "وذات زيارة عمل لباكستان طلبت من قائد الكلية أن أزور بصحبته وفاء فقط لنرى المكان الذي قضيت فيه سنتين من التدريب.. رأت وفاء العديد (من الطلاب) يركض رافعاً البندقية وآخرين يزحفون على الأرض.. وتسَاءَلَتْ هل كان يٌفْعَل بك مثل ذلك؟ بالطبع وربما أكثر. آه عرفت الآن لماذا أنت مليء بالعقد.. وضحكنا معاً وكانت سعيدة بهذه الزيارة...." ص 48. على أن أسمى هذه التجليات الإنسانية هي ذكره لاسم زوجته ونشر صورتها مرتين، والتعريف بها وبعائلتها وتخصصها الدراسي وطريقة زواجهما وعدم الإنجاب منها، والبقاء طوال هذه المدة عشيقين/ صديقين/ زوجين لم ينظرا إلى عدم الإنجاب كمعضلة تسمم الحياة، لكنهما اعتبراها هدية ربانية من السماء جعلتهما خفافاً من القيود وقلق الخوف على فقدان ما يملكان. ونتيجة لهذا الود القائم "سافرنا معاً شرقاً وغرباً وتقاسمنا شجن الاغتراب ولحظات السعادة، وتجولنا في شواطئ وغابات على مساحة الكون وصنعنا صداقات باتساع الدنيا ونزلنا بلاداً سحرية بامتداد الفضاء ومازال المركب يمضي". إلى أن يقول... "كنا معاً صنعنا المعجزة: معجزة الحب الذي لا يعرف الذبول". عندما قرأت هذه الكلمات ص 78 كتبت بجوارها "كلام جميل، رائع، رومانسي عن زوجين/ صديقين/ حبيبين/ عاشقين جمعتهما مكة وجازان"!! وكتبت مطلع قصيدة أرجو أن تكتمل ذات يوم: بلا أولاد يمشي مركب العمر وبالحب الذي يسري ولا ندري حبيبٌ ضمه "حِبٌّ" له ألق ودنيا بالغرام وبالهوى تجري كما تتجلى قمة الحب ونكران الذات والذوبان في الآخر/ الشريك والوفاء المتبادل بين الزوجين/ العشيقين/ الصديقين، ما ختم به ص 182 إذ يقول عن شريكة حياته: "وإذا كان لي ما أقول قبل أن أطوي الصفحة الأخيرة هنا هو أن أعتذر من وفاء اعتذاراً بحجم هذا الكون إن كنت نسيتها كثيراً في غمرة الأنا والحديث عن الذات، رغم أنها كانت هناك وكانت هي محور كل شيء. وما كنت لأكتب هذا لولا أنها كانت ومازالت معي رفيقة لا تعرف من كتاب العمر سوى الغفران ولا تعرف من مفردات الحياة سوى العطاء دون حدود ودون انتظار". هنيئاً لك يا "وفاء" هذا الوفاء من زوج صادق/ عاشق ذي مشاعر عاطفية ملتهبة يحبسها وراء ثياب العسكرية الجافة والنياشين الخشنة. هنيئاً لك يا وفاء بهذا "القروي الغضَّ، الفقير من عبارات المجاملات، المعدم من إنجيل التسامح، العنيد كالصخرة!!" كما قال عن نفسه ص 78. وهنيئاً لك فقد استطعت أن تصنعي من جذع الشجرة القاسية/ الصلبة مزماراً للغناء!! أعود إلى الصفحات (75-79) التي تحمل الفصل الخاص المعنون زوج من الأحذية!!! لأدعو القراء الأفاضل لقراءته والتأمل في معطياته وتجلياته وآفاقه الإنسانية تجاه المرأة شريكة الحياة!! * * * خاتمة: وهكذا – عزيزي القارئ – تجولنا في رحلة سيرية/ عسكرية تتنامى مع رواية الكاتب العالمي ماركيز: ليس للجنرال من يكاتبه. على مستوى العنوان فصاحبنا عمرو العامري/ الضابط السعودي برتبة عميد ركن يسمي مذكراته: ليس للأدميرال من يكاتبه، لكنه يضعنا في فضاء نصيِّ مختلف، نقرأ فيه سيرة ذلك القروي الذي خذلته مراحل التمدرس الجامعية، وفتحت له الآفاق العسكرية فرصاً فاهتبلها وسار فيها حتى وصل مرحلة الأدميرالية/ عميد ركن في جهاز البحرية. خبرات كثيرة اكتسبها، وبرامج تدريبية كثر خضع لها، ومواقف بحرية وعسكرية مر بها، وكلها أفضت إلى هذا الأفق الواسع من النشاط والحيوية في المجال العسكري. لكنه أضاف إلى ذلك تمدرساً واعياً ومثاقفة ناهضة جعلته يمد عقله وفكره بنياشين القراءة والمثاقفة مع الكتب والروايات. مع الشعر والأدب. مع التاريخ والجغرافيا حتى تشكلت لديه حصيلة معرفية ولغوية وأسلوبية فاتنة نقرأها في ثنايا سيرته ومذكراته فنقف عندها إجلالاً وإكباراً. لك التحية العسكرية أيها الأدميرال ولك المحبة الثقافية أيها المثقف/ الكاتب وإلى الملتقى في نتاج جديد!! * ملاحظة ببليوجرافية: الكتاب الذي نتحدث عنه هو: ليس للأدميرال من يكاتبه/ مذكرات ضابط سعودي عمرو العامري دار الرونة، ط1، 2010م/1431ه د. يوسف حسن العارف جدة مساء الجمعة 1/3/1432ه