افتتح وزير العدل الدكتور محمد العيسى صباح امس الاول في جدة ملتقى:" تسبيب الأحكام القضائية"، وقد أشار العيسى في كلمة الافتتاح إلى أهميّة هذا المُلتقى، مُعتبراً تسبيبَ الحُكم القضائي في طليعة ضمانات العَدَالة، وعُنوانَ شَفافيتها، ومُرتكزَ قوة أحكامها، قائلاً: إنَّ حيثياتِ الحُكم القضائيّ تترجم تَمَيُّزَ أحكام الشريعة الإسلامية، وقدرةَ حَمَلتها من أصحاب الفضيلة القضاة على التصدي لمُستجدات الأقضية ونوازلها. وبيَّن أن ضعف التسبيب في حال تقدير حصوله يعتبرُ مسؤولية قاصرة، فهو يعود سلباً على مُصْدِرِ هِولا يتعدَّاه، فلا يطال حُكمَ الشرع البتة، كما لا تطالُ حالاتُهُ الاستثنائية أداءَ المؤسسة القضائية، مشيراً إلى أن هذا الأمر لا يمكن أن يفوتَ التفتيشَ القضائيَّ بالنسبة للتقييم الدوري لمستوى الأداء المهني، كما لا يمكن أن يفوت الدور الرقابي للمحكمة الأعلى بالنسبة لتقويم العمل القضائي في كل قضية تُستأنف ويُطَعَنُ عليها، وأشار إلى أنه في حال الاعتراض بالطعن قد تتمُّ الملاحظة على الحُكْم، أو يُصَارُ عند الاقتضاءِ إلى نَقضه مَعَ التَّسليم بمَنْطُوقه، وذلك لانعدام، أو قصور، أو خَطأ التسبيب، باعتباره غيرَ مُوصِلٍ لمَنطوقه الصَّحيح. لافتاً إلى أن قضاة المملكة يتمتعون بخاصية الرسوخ في الفقه الإسلامي وأصوله، والاطلاع من خلال المناشط العدلية على القدر الكافي من المواد ذات الصلة بالشأن الحقوقي، مشيراً إلى أن هذه المُؤهِّلات من أهم مكونات البناء السليم للحكم القضائي، فضلاً عن الاهتمام بقواعد الشريعة الإسلامية، والأنظمة المرعيَّة واستجلاء مقاصدهما. كما أوضح الوزير أهميَّة التسبيب القضائي في إبراز أحكام الشريعة الإسلامية، وإيصال مضامينها للرأي العام في الداخل والخارج، وبخاصة في القضايا الجنائية، التي تتم قراءتها قراءة فاحصة بعد نشر أحكامها. وقال إن نشر الأحكام (وقائعَ وأسباباً ومنطوقاً) يعكس متانة الفقه الإسلامي، وقدرة حَمَلته على استيعاب مختلف الوقائع مهما بلغت صعوبتها وتعقيداتها، ومن ثم التعامل معها بتسبيب قوي يوصلنا لمنطوق عادل، كما يعكس من جانب آخر حياد قضاء المملكة وشفافيته، وتَمَكُّن كفاءاتنا الشرعية من المادة الإجرائية والموضوعية، مع توافر بقية مؤهلات شغل الوظيفة القضائية التي جعلت من القاضي السعودي قامة شامخة لخدمة الشريعة الإسلامية بإبراز قيم عدالتها، من خلال أداءٍ قضائي مُحْكَم في مبناه ومعناه. كما أشار الوزير إلى أن قضاء المملكة لا يَسْمح لأي وصف أياً كان بأن يؤثر سلباً على حسن سَيْر العدالة، وبَيَّن في هذا الصدد أنه ليس لاختلاف المُعتقد والفكر، أي اعتبار في معاييرنا القضائية، وأن قاعدة القضاء السعودي في هذا الأمر هي قول الحق جل وعلا:"وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ"، وقوله سبحانه: " وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقْوَى"، مبيناً أنه صدرت عدة أحكام قضائية في هذا الخصوص، تُؤكِّدُ على هذه السِّمَة العليا في قضاء المملكة، وهناك فرق بين محاسبة الشخص على الإخلال بالنظام العام للدولة، وفي طليعة ذلك الثوابت والهوية، وبين أن يترافع المسلم وغير المسلم أو ما هو دون هذا التباين، وذلك في خصومة تتعلق مثلاً بحق مدني أو تجاري أو جنائي أو غير ذلك؛ فالجميع والحالة هذه أمام القضاء على حدٍّ سواء، ولا اعتبار في الحكم عندئذ لغير عدل الشريعة بكل تجرد، والظالم يُردع ويؤخذ الحق منه وإن كان مسلماً، والمظلوم يعطى حقه وإن كان غير مسلم، وهذا هو معنى الآيتين الكريمتين السابقتين، وهو عدل الشريعة الإسلامية. وقال إن الحكم القضائي لا يستقيم إلا بتكامل أسبابه وانسجامها مع الوقائعوالمنطوق، وجميع هذا يترجم المستوى العلمي، والفقه القضائي، لمن صدر عنه، وما يتمتع به من بُعد في فهم المقاصد الشرعية والنظامية، لافتاً إلى أهمية أن تتضمن الأسباب التوصيف الصحيح للدعوى، وتقرير الاختصاص بنظرها، واستعراض مُهِمَّات وقائع المُرافعة، وبالأخص طلبات الخصوم والدفع والدفاع، وفحص أسانيدها ومناقشتها، واليقظة لأي أسلوب من أساليب التحايل والتدليس على العدالة، حتى نصل للحكم العادل وفق المبادئ القضائية المُسْتقرة، على هَدْي أحكام شريعتنا المطهرة، في جملة حَيثياتٍ يحشدُ لها القاضي سياقاً علمياً يَستشرفُ آثاره في قناعة الآخرين بحكمه، فضلاً عن ثقته في خاصة نفسه بما يُصْدِرُهُ، وترجمته الحقيقية لمستوى كفاءته القضائية، والذب عن شريعته الإسلامية التي يحكم بها، مع إيضاح حكمه للمترافعين لتمكينهم من حق الاعتراض على الأسباب التي يدور عليها محور الحكم، فإن لم تكن ثمة أسباب، أو كانت مبتسرة، أو يشوبها الغموض، والتداخل، أوالاقتضاب المُخل، فإن قاضي الموضوع في حال حصول ما ذكر لم يجعل الخصوم على بينة من أمرهم إزاء ما صدر في حقهم من حكم، بل إنه من خلال هذا الإيراد الحكمي قد حال بأسلوب غير مباشر دون الاعتراض على الحُكم، والمطلوب أن يبذل في كتابة الحكم وسعه، فلا يترك زيادة لمُسْتزيد ولا ثغرة لمستدرك، وحتى يَسْلَمَ في ثاني الحال من النعي عليه فساداً أو بطلاناً كلياً أو جزئياً، أو من وصفه بأي عيب من عيوب الحكم القضائي، مشيراً إلى أن الإبهام في تسبيب الأحكام لا يقل عن الإبهام في منطوقها، بل إن التسبيب بوضوحه وتكامله يُفسِّر المنطوق، فهو محمول على الأسباب بالنص أو الاقتضاء، ولا يُمكن أن يُحال على غموض أو قصور فضلاً عن انعدام، وفي الجملة لا بد من بذل الجهد بالتتبع والاستقراء والفحص والبيان التام في كتابة الأسباب. وقال الوزير: إن كافة المواد القضائية سواءً كانت مدنية، أو تجارية، أو إدارية، أو أحوالاً شخصية، أو جنائية تحوي في طياتها دلائل شرعية ونظامية ومبادئ قضائية محمولة عليها، يمكن من خلالها توجيه الحكم القضائي بأسباب واضحة تنير السبيل. وعن المواد الجنائية وبخاصة قضايا الإرهاب وأمن الدولة كشف الوزير أن وقائعها مشمولة بنصوص شرعية، تُجَرِّمُ المُدانين في قضاياها، لكن بتفاوتٍ في أحكامها بحسب تفاوتِ وقائعها وفق ما يقضي به الوجه الشرعي. وقال العيسى: إنه قد صدرت عدة أحكام في هذا الشأن استقرَّ عليها قضاؤنا الجنائي، وذلك في سياق تسبيبٍ مليء بالمادة القضائية الباعثة على صدور الحكم، وهو ما يكشف بالبيان الشافي لكل مُدَانٍ جريرتَهُ في إطار شرعي يستطيع من خلال وضوح حيثياتها استئناف الحكم الصادر بحقه، وكذا الطعن عليه أمام المحكمة العليا وفق الإجراءات النظامية النافذة، لافتاً إلى أن بعض الأحكام تُستأنف وتدقق وجوباً من المحكمة العليا، ووعد الوزير بنشر الأحكام المشار إليها في هذه المادة الجنائية ضمن تصنيف مفرد باسم:"مجموعة الأحكام الجنائية في قضايا الإرهاب وأمن الدولة "، ويشمل النشر كافة الوقائع والأسباب والمنطوق، مبيناً أن نشر الأحكام بوجه عام، يُمثل استحقاقاً مهماً من استحقاقات العدالة وضماناتها، ويخدم من جانب آخرالعمل القضائي، والحقوقي، وكذا البحوث الأكاديمية والاستطلاعية ذات الصلة. هذا وقد حضر الملتقى الذي وجه بإقامته المقام السامي الكريم عددٌ من أصحاب الفضيلة قضاة المحاكم الابتدائية، والاستئناف، والمحكمة العليا، وتستمر أعماله عدة أيام، وقد استقطب الملتقى عدداً من الخبراء من داخل المملكة وخارجها.