في ظل ما نشهده هذه الأيام من جدل حول منع النقاب في فرنسا لا نملك نحن معشر محبي الفن سوى تذكر حقيقة قد يجهلها كثير من المسلمين، وهي أن النساء الفرنسيات بل والأوروبيات بشكل عام كُنَّ حتى نهاية القرن التاسع عشر يرتدين معاطف سوداء (Cloaks) فوق ثيابهن الملونة أشبه ما تكون وظيفتها بالعباءة لتحررهن من نظرات خاطفة قد يسترقها ضعاف النفوس، ولم يكن يُخلع هذا المعطف إلا في الأماكن الخاصة المغلقة، فالساقطة هي وحدها من تسير بثياب زاهية الألوان في الشوارع وأمام الغرباء. ولأن الانتقال في تلك البلدان كان يتطلب أحياناً تجاوز أماكن مقطوعة عن الناس كالغابات وغيرها ظهرت ضرورة وجود مرافق (chaperon) للمرأة ليعينها في حال حاول أحد ما استغلالها، وهو عادة رجل أو امرأة أكبر سناً، وأحياناً نادرة قد يكون شقيقاً أصغر سناً. وقد اخترنا اليوم أن نستعرض أحد الأعمال التي لعب فيها الرداء الساتر للمرأة دوراً كبيراً للتعبير عن امتلاكها القوة في فرنسا ضد محاولة استغلالها كسلعة تشبع نظرات وخيالات بعض المرضى، واخترنا تأجيل تقديم دليل بصري على وجود المحرم لموضوع مستقل تناسباً مع أحداث الساعة. تعد لوحة (في المقصورة) للفنانة (ماري كاسات) من الأعمال القوية التي عبرت بشجاعة عن رفض المرأة لأن تنتهك حريتها لإشباع رغبات الرجل، والفنانة كاسات أمريكية الأصل إلا أنها درست ومارست الفن في فرنسا واشتهرت هناك أيضاً. وترجع عبقريتها في هذا العمل إلى الطريقة التي أدمجت فيها المشاهد ليصبح عنصراً هاما من عناصر العمل دون أن يشعر بذلك. مشهد مقرّب من اللوحة يظهر الرجل وهو يسترق النظر إن المشهد يبدو سطحي المعنى في الوهلة الأولى، فهو يصوّر امرأة تقبع في إحدى مقصورات المسرح وبيدها اليمنى منظار ترقب ما يحدث في البعد، إلا أن تحليلاً بسيطاً لتفاصيل اللوحة يكشف عن بعد اجتماعي خاص. إن المرأة قد غطت كامل زينتها بمعطف وقبعة سوداوين لتستطيع الاسمتاع بهذه التجربة الثقافية بحرية، بعيداً عن الأعين المتلصصة، وقد ارتدت زوجاً من القفاز الجلدي وامسكت في يدها اليسرى بمروحة صغيرة تلطف بها ما تشعر به من حرارة بسبب الأضواء المكتظة من حولها ولباسها الثقيل. إلا أنها لم تَسْلَمْ رغم ذلك من انتهاك حريتها والتعامل معها كسلعة! فبعيداً، ومن إحدى المقصورات يظهر لنا رجل وقد وجه منظاره بوقاحة إلى الفتاة ليتفحصها طويلاً، وهي غارقة في تأملها بالاتجاه الآخر دون أن تلحظ وجوده!! إن شجاعة كاسات في انتقاد مجتمعها الباريسي آنذاك تمثلت ليس فقط في اختيارها للموضوع بل في اختيارها لزاوية رسم تجعل من يشاهد اللوحة يمارس دور كلٍ من الفتاة والرجل أيضاً، وهنا مكمن العبقرية حيث أتاحت لنا كمشاهدين الفرصة لاختبار إحساس كل منهما، فنحن بذلك نمارس نفس دور الرجل حينما نتوقف لمشاهدة الفتاة وتأمل جمالها دون أن تدري فنستشعر لذة خفية مصدرها احساسنا بعفويته حركتها دون أن تدرك أنها مراقبة، إلا أننا سرعان ما نُصدَم حين ندرك فجأة أن الرجل البعيد يبدو وكأنه قد استمتع أيضاً بتلصصه علينا وعلى الفتاة معاً ونحن لا ندري، فنشعر عندها بالضعف لأننا سلبنا حقنا في الاختيار بين أن نستعرض أنفسنا أمام الآخرين أو نبقيها بعيدة عن الأنظار. إن موضوع اللوحة في حقيقته يعبر عن علاقة الجذب والشد للقوى بين الشخوص الرئيسية في العمل وبين المشاهد، وما يتولد في النفس من مشاعر حين امتلاك القوة، وحين سلبها. لقد أبدعت كاسات في الكشف عن قوة النظرة، وكيف تغير من قوة من يمتلكها أو من يُحْرَم قوة صدها. إنه لشعور مقيّد حقاً أن تكون المرأة مراقبة في كل تحركاتها وقد سترت زينتها، فأي حرية إذاً ستشعر بها حين تكشِفها؟