قبل أشهر وفي مجلس عزاء أخي الدكتور عبد العزيز الحسن في وفاة أخيه رحمه الله، وبعد وصولي بدقائق تهادى أحد صحفيينا وكتابنا المشهورين نحو والد الفقيد، فقدمه أحدهم قائلا: هذا طال عمرك الأستاذ إدريس الدريس ابن الشيخ عبدالله بن خميس. استدرك البعض مبتسماً رغم الحزن لهذا التماهي الجميل.. تماهي الأديبين الكبيرين عبدالله بن خميس وعبدالله بن إدريس في ذاكرة الناس، بعد سجال أثرى ساحتنا الأدبية.. كان الشيخان يشعرانك بالثراء وأنت تقرأ لهما شعراً ونثراً ونقداً.. تشعر بالود يفوح من أعطاف الاختلاف.. كان كل منهما يؤيد وجهة نظر الحب.. كانا ينتميان لثقافة جميلة لا تطلق الرصاص على الآخر، ولا تتورم بالأحقاد وتصفية الحسابات، لكن سنة الله ماضية.. شاخ والدانا وثقلت حركتهما وغابا عن الساحة بعد أن كلت أجسادهما عن اللحاق بهممهما. في الأربعاء الماضي رحل أحدهما.. رحل ابن خميس.. مر به الموت، ودون أن يسلِّم أو يستأذن أخذه منا، وغيبه عنا.. رحمه الله، وليت شعري من منا سيمضي بعده..؟ ليت للموت عنوانا فنسأله.. ليت للموت دروبا نميل بأحبتنا عنها.. ليت شعري من منا سيبكيه حبيبه ويبلل قبره بدموعه قريباً؟. حسنا أيها الموت.. لن تجيب، وأدرك أنك لن تغيب، فخذ من شئت... خذ من شئت فمن ذا الذي يردعك، ومن ذا الذي يخيفك؟ غيبت الغني والفقير، وأرديت الجبان والجسور، وانتزعت الأمير والمأمور، مررت بآبائنا وأمهاتنا وسترحل بأحبتنا وفلذات أكبادنا وتحطم قلوبنا، فهل لنا من مهرب أو خيار..؟ خارت قوانا وقلت حيلتنا أمام قبضتك.. بضاعتك رائجة هذه الأيام في أسواق الظلمة.. يتمت فيها الكثيرين وأبكيت الكثيرين، وأعلم أنك ستُبكينا كلنا، ثم تجهز علينا كلنا.. لكن دعني أخبرك شيئا: إن ذلك لن يدوم.. سنلوذ بربنا.. نناشد رحمته رغم ذنوبنا ونتوسله ونسأله أن يجعلنا أسعد الناس يوم مماتك.. وأكثرهم احتفالاً برحيلك.. يومها لن نذرف الدموع عليك، ولن نعزي أحدا فيك، بل سنعطيك ما شئت من أكفان.. سنجعل من موتك تاريخ تعرفنا على اللانهايات.. سننتشي بأرواح لا تعرف الحزن ولا الضيق ولا الملل ولا هادم اللذات.. سنبتهج بأجساد لا تعرف التهدل ولا العفن.. سننطلق في أجواء حرية لا تعرف الاستبداد أو الحقد أو الفقر أو الفساد. أما أنت أيها الشيخ المسافر بقلوبنا، والمغادر رغماً عنا، فأحببتك رغم أني لم أتشرف بتقبيل رأسك، لكني أسأل الله أن نلتقي في الجنة وشبابها الفاتن.. إذا خيم الموت ذات مساء وأحرق جوفي رحيل الرفيقْ فهل من سبيل لدفن القلوب فسيل الدموع يزيد الحريقْ؟ ألا يأخذ الخل أشياءه ليبقى الفؤاد خلياً طليقْ؟