اعتبر نفسي من الناس الذين إذا ضاقوا بالواقع ، هربوا إلى التاريخ !! أنا في حضرته ، دائما ما أعثر على لياقتي الروحية ..صدقني التاريخ شفاء للروح !! عبره أستعيد البشر والأمكنة والأزمنة حيث يسمع صوتها الخفي ، وكأنه يستدعي الأبدية ، وأنا هناك بالقرب من الصدى أتأمل ما كان ، واستحضر وجوها غاربة ، مضت حيث وجه الله سبحانه ، وتتجسد حكايات تبعث على الضحك ، وأخرى تذرف بسببها الدموع!! عندي التاريخ ذاكرة إنسانية ، أستعيد عبرها ما جرى ، وأعرف ربما ما سيجري ..هي حكمة محفورة ضد النسيان ، ومقاومة للعدم . أجلس في ميدان صلاح الدين بحي القلعة ..هناك علي مقهى قليل الأهمية صاحبه العم "نور الدين درويش" والمقهى من قديم قدم الحي الكائن به ، والشجرة أمامه من نفس العمر تقريبا. أتأمل جامع "محمد علي" في علوه علي الجبل ، تدهشني منارتاه بطرازهما العثماني ، والقباب السلطانية تطل على الحي الزاخر بالمساجد الألفية . أنا يضنيني المكان ، ومن خلاله أقرأ الحواديت مقيما في ركن من مدينة من مدن الله. انشغل هذه الأيام بما يجري على أرض مصر من أحداث وحوادث تروعني مجريات الأمور ، واضع يداً على قلبي ، وأدعو الخالق الستر في البدايات والخواتيم . انبش الذاكرة ، وأستعيد ما قرأته عند أستاذي الراحل "حسين فوزي" في كتابه الكبير "سندباد مصري" حيث يقول عن المصريين ، ويصفهم. بائع الحلوى والخراط والسروجي واللبان والعطار وطارق الفضة والبناء والحداد يرى بيّاع البسبوسة يرجو جاره أن يحرس صينيته حتى يذهب ويتوضأ ويصلي في سيدي البيومي ..ويكشف حسين فوزي عن لغة البسطاء السمحة المهذبة ، المتداولة بين هؤلاء ساكني الأحياء التي تشيع في أركانها روائح التواريخ والبهرات والقدم . يكشف حسين فوزي لغة البساطة والسماحة المهذبة بين هؤلاء من أمثال "صبحنا وصبح الملك للمالك" يعني توكلنا على الله للعمل ، "يفتح الله" ومعناها السعر الذي تعرضه غير مقبول و "صلي على النبي" أي فلنبدأ الفصال ..و "يا فتاح يا عليم" أي أول القصيدة كفر و "بعدها وياك" و "ربنا يكفينا شرك" و "بسم الله" أي تفضل وشاركني لقمتي ، أو "أتوكل على الله" يعني اغرب عن وجهي من غير مطرود . لغة شعب طيب القى بحمله على الله ، وتوكل ..يترك أموره تسيرها الأقدار ، والرزق معلوم عند الخالق ، وما قدر سوف يكون.. يحمل خبرته / تاريخه على ظهره آلاف السنين ..يصبر إلى حد العجب ، والسخرية من صبره ، حتى انه يرى الظالم والفاسد والغازي والمستعمر ينهب رزقه فإذا استرعيت انتباهه أجابك وعلى وجهه بسمة ساخرة : سيبه منه لله ..هو هايروح من ربنا فين؟! ..ويختزن صبره حتى يحين الحين. عاش مظالم الغزاة آلاف السنين ..وكانوا يحاربون باسمه ،ويفتحون البلدان باسمه ..فرس ورومان ويونان ومماليك وأتراك من كل جنس!! فيما هو يزرع ويقلع ويبني البيوت والمساجد ويقيم الأضرحة وبيوت العلم. شعب مثل هذا يكون جزاؤه ما جرى في الثلاثين عاما الماضية ؟! أن ما نقرأه ، ونعاينه ، وما تكشف عنه التحقيقات من أسرار ، ومن خزي ، ومن تجاوز لفئة استبدلت نفسها بأمة كاملة ، لشيء يدعو إلى الحزن . هل كانت مصر طوال تاريخها نهبة لظالم ، ومرتعاً لفساد ؟! رحم الله "ابن إياس" في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور" الذي يقول : وزع دخل مصر 24 قيراطا ، أربعة للسلطان ، وعشرة للأغنياء وأهل السلطة ، وعشرة للجند ..انتهى دخل البلاد ..كنا في أواخر القرن السابع الهجري..هل تحسن الجمع والقسمة والطرح ،وتجيد طرح الأسئلة ..اقرأ جيدا ،وتمعن الأمر واسأل : أين نصيب الشعب المصري من التركة ؟ .. أين حقه الشرعي في ماله ؟! وعندما كنا نسأل جداتنا : لماذا اختص الله الغازي والمستعمر والظالم بكل هذا الخير ، كانت تجيبنا بحكمة السنين "لهم الدنيا يا أولاد . ولنا نحن المصريين الآخرة" . هل عرفت أين نصيب المصريين الفقراء على طول تاريخهم ؟! "إنه القيراط الخامس والعشرون..(القيراط الوهمي)" ومكانه مملكة السماء. فلا حول ولا قوة إلا بالله!!!