كان من الممكن أن تكون جامعة الدول العربية واحدة من أقوى وأكبر التكتلات الاقتصادية والسياسية في العالم .. لو أدركت بعض الأنظمة العربية أن الاقتصاد هو الذي يقود السياسة وليس العكس ، خاصة في زمن التكتلات الاقتصادية الكبرى ، لكن تلك الأنظمة ولأسباب تتصل بالأنظمة ذاتها أكثر من اتصالها بالدول ككيانات ، لم تستطع أن تتجاوز محاور استقلالها الذي تم في الغالب تحت شعارات سياسية ، بعضها يذهب إلى ما وراء الحلم واليوتوبيا في مشاريع الوحدة الاندماجية ، والبعض الآخر ظل يتمترس خلف القضية الأم بدعوى انشغاله بها عما سواها حتى مسائل التنمية ، دون أن يدرك هؤلاء أن خدمة هذه القضية المركزية وسواها من قضايا الأمة لا يُمكن أن تتأتى إلا من قوة الجسم العربي وتماسكه بتماسك مصالحه ، وحجم تأثيره على الساحة الدولية .. لذلك بقيت الجامعة مثل بيت الأب متعدد الزوجات ، لا يذهب إليه إلا من يشعر بغدر أخيه ، وهو يعرف أنه لن يخرج منه بأكثر من محاولة تطييب الخاطر . كل هذا يحدث والعالم يتغير من حولنا . وحدها دول الخليج التي كانت ولا تزال الداعم الأكبر للجامعة في إطار تحقيق الحلم العربي الذي هو هاجس كل الشعوب العربية ، تنبهت إلى أن قيام منظومة خليجية اقتصادية وسياسية تتوحد فيها مصالح هذه الدول قد يؤسس لما يلفت أنظار العرب إلى ضرورة إعادة النظر في نظام جامعتهم وسياساتها .. وقد تكون هذه المنظومة بآلياتها الواقعية النواة الحقيقية لهذا التصحيح ، ورغم أنها التجربة العربية الوحيدة التي أثبتت نجاحها ، وإن لم تحقق كل تطلعات مواطنيها، إلا أنها استطاعت في المجمل أن تتجاوز معظم المصاعب التي اعترضت سبيلها .. لتشكل الكيان السياسي والاقتصادي الأكثر انسجاماً على مستوى المنطقة ، واستطاعت بالتالي أن تحافظ على استقرارها في أكثر مناطق العالم حساسية واستهدافاً . وذلك بفضل الانحياز إلى لغة القواسم المشتركة عوضا عن المزايدة على الشعارات .. ثم قدرة قادتها على التواصل من أقصر الطرق بعيدا عن استخدام المنابر . والقرار المفاجئ بقبول طلب انضمام الأردن لمنظومة التعاون ، ودعوة المملكة المغربية للانضمام بلا أي ضجيج ، وبهذه الدينامية الواقعية .. يكشف عن سر نجاح تلك الآلية ، كما يكشف عن واقعية رؤية هذه المنظومة لكل ما يعزز من قوتها ويمنحها أفقاً أوسع للتفاعل اقتصاديا وسياسيا لمواجهة استحقاقات المرحلة ، ومخاطر التهديدات ، وهي رؤية تؤكد من جانب آخر حقيقة التزام الخليجيين بإطارهم العربي ، وعدم انكفائهم على ذاتهم كدول متشابهة في أنظمتها وشعوبها ، وفي اقتصاداتها .. لكنها بنفس الوقت تنظر لمن ينضم إليها من الأقطار العربية وفق معايير قابليته سياسياً للاندماج في تكتلها .. بما يجنب هذه المنظومة تكرار تجربة مأزق الجامعة . وهي بالنتيجة خطوة حكيمة من قادة التعاون .. لعلها تسجل أهمّ رسالة للأمة العربية أن طريق الوحدة ، والوحدة الحقيقية يبدأ من هنا..