دخل الى عيادة القلب رجل طاعن في السن يتوكأ على عصاه، أشتعل رأسه ولحيته شيبا، وانحنى ظهره من كر الليل وفر النهار.. ورسمت مكابدة السنين على وجهه تجاعيد تحكى كثيرا من الهموم والمعاناة والأيام العجاف، لم يبق في ايامه أكثر مما مضى، يمشي ببطء وعلى رأسه عصابة بيضاء، ترافقه ابنته. وبعد القاء تحية الاسلام جلسا امام الطبيب، قالت البنت ان والدي يعاني من السكر واصبح حديثا يشتكي من ضيقة التنفس وانتفاخ الارجل حتى انه اصبح لا يستطيع الذهاب الى المسجد، وعند سؤال المريض وصف اعراضه بكل وضوح وكان حاضر العقل سريع الجواب على الرغم من ضيقة تنفسه، وعند فحصه السريري تبين ان لديه علامات فشل القلب من احتقان اوردة الرقبة وزيادة السوائل في الرئتين والقدمين، وعند عمل فحص الموجات الصوتية للقلب أكدت ان لديه ضعفا شديدا في عضلة القلب، وتم ادخاله المستشفى والتأكد من عدم وجود انسداد في شرايين القلب، وأعطي العلاج اللازم حتى تحسنت صحته وعند خروجه، للمنزل اعطي مجموعة من الادوية (خمسة انواع من الأدوية منها ما هو منشط للعضلة ومنها ما هو مضاد للتخثر، ومنها ما يتحكم في الكلسترول او نبضات القلب او موسع للشرايين). كبار السن المصابون بأمراض القلب يحتاجون إلى رعاية خاصة وعند المراجعة بعد اسبوعين ذكر المريض انه تحسن كثيرا واصبح لا يشتكي من ضيقة التنفس بل واصبح يذهب الى المسجد ويزور بعض اقرانه في بيوتهم او في المستشفى، وخلال حديثه في العيادة قال يا دكتور انا رجل كبير في السن والأكل الذي يأكله "الجيل التالي" لا أستسيغه، فهل هناك ضرر على صحتي من شرب حليب الأبل؟ مباشرة وقبل ان يكمل الرجل حديثه قاطعته ابنته: يا بوي الله يهديك قلتلك انه ضار بالصحة ويرفع الكلسترول، وما يصلح لمرضى القلب!!! فرد الأب قائلا: (والله يا دكتور كل شيء أشتهيه ممنوع عندهم الله يصلحهم: رز ممنوع، لحم ممنوع، تمر ممنوع، حليب ابل ممنوع، قهوة ممنوعة.... وش بقي!!). ولأن هذا الموضوع سبق طرحه أمامي سواء من المرضى وأقاربهم أو في بعض مجالس المجتمع أو من الذين يهتمون بهذا الموضوع.. لذلك لابد من بسط الجانب العلمي والانساني في هذا الموضوع وسنتناوله على شكل نقاط. اولا: ان أغلب امراض القلب تحدث في كبار السن وبالذات فشل القلب وكذلك الغالبية العظمى يأخذون مجموعة من الادوية للفترة المتبقية من اعمارهم، فينصح بأن لا نضيق عليهم سواء في المأكل (فمثلا منع الملح نهائيا عن الأكل في مرضى الضغط) او المشرب (مثل قصة الرجل أعلاه) او في الزيارات: (فمثلا منعهم من زيارة المرضى خوفا على صحتهم ان تنقل اليهم الامراض بالعدوى) او من الذهاب الى المسجد خوفا من سقوطهم... الخ. وعلى الرغم من ان الأسرة تتصرف بهذه الطريقة من منطلق الحرص والشفقة على كبير السن لديهم، الا أن الحرص المفرط قد يؤدي بكبار السن الى الاكتئاب والاحباط وملازمة غرفهم ليلا ونهارا، وبالتالي ترك ادويتهم الاساسية او التظاهر بأخذها امام العائلة. أغلب حالات فشل القلب تحدث في كبار السن وقد رأيت أمثلة حية على ذلك، فكم اشتكي لي بعض ابائنا وامهاتنا من كبار السن من تضييق أهليهم عليهم في المأكل أو في المشرب، وفي المقابل فهي ليست دعوة مفتوحة لأهمالهم غذائيا وجعلهم يأكلون ما يشاؤون من نافع وضار بالكميات التي يريدونها، وانما المقصود الاعتدال والمراقبة واعطاء النصح في كل ذلك ومهما كلف الأمر لابد من إقناع المريض بأهمية تقليل او الابتعاد عن هذا النوع من المأكل او المشرب، اذا كان ذلك يضره حسب توجيه الطبيب وليس حسب القناعة الشخصية لأحد افراد العائلة. ثانيا: خلافا للاعتقاد السائد عند الغالبية بأن حليب الابل خال من الكلسترول!! فإن كمية الكلسترول في حليب الابل هي اقل من 3% وهي اقل بنسبة 40% من الكلسترول في حليب البقر، وكمية الدهون في انواع الحليب المختلفة كالتالي: نسبة الدهون في كل 100 جرام من الحليب هي (البقر 3.9 جرام، الغنم 3.5 جرام، الضأن 6.5 جرام، الإنسان 4.2 جرام، الأبل 2.3 جرام). ثالثا: الغالبية العظمى من الكلسترول (80%) تصنّع في الكبد ولا تأتي من الغذاء وبالتالي فمنع كبار السن من تناول حليب الإبل خوفا من الكلسترول ليس معتمدا على مستند علمي راسخ. رابعا: لا يوجد دليل علمي محكم في العصر الحديث ينفي او يثبت ان حليب الابل شفاء لأمراض القلب أو علاج فعال للسكر والمشكلة في حليب الابل ان اغلب الناس يقع بين طرفي نقيض، فمنهم من يعتقد ان هذ الحليب شفاء من كل داء، سواء أكان امراض القلب أم السرطانات بأنواعها المختلفه او النزلات المعوية وفي المقابل هناك من يعتقد ان هذا النوع من الحليب ضار للصحة ويجب الابتعاد عنه نهائيا!!. خامسا: أهم بكثير من جزئية الكلسترول في حليب الابل والمواشي عموما هو تسخين الحليب او بسترته وذلك للقضاء على احتمالية وجود البكتريا التي تصيب الحيوانات وقد تنتقل الى الانسان مثل المالطية ومرض السل الهضمي. وفي الختام: ارجو من جميع افراد الاسرة الرفق بمرضى القلب لديهم من ابائهم وامهاتهم وعدم منع اي شيء عنهم الا بتوجيه الطبيب المعالج وفي الحدود التى اوصى بها الطبيب من دون زيادة او نقص وان يكون ذلك عن قناعة من المريض نفسه وبما يناسب عاداته وتقاليده والبيئه التي نشأ فيها، فتعاملنا معهم يجب ان يكون فيه كثير من الرحمة والخضوع والتذلل قولا وفعلا قال الله تعالى: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة)، وقال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا).