أشرنا في المقالة السابقة إلى أنه ليس في كل الأحوال أن يكون المتأخر قد سرق من المتقدم؛ ولكن هل يمكن أن أطبق طريقة وقوع الحافر على الحافر مثلاً على قول ابن لعبون: وأقفى مصر كن جاكات شاله جلمود صخر حطه السيل من عال فلا شك لدي أن ابن لعبون وهو الشاعر المتعلم قد سمع بيت امرئ القيس واحتذاه: مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من علِ ومن الأمثلة التي تتشابه في ألفاظها ومعانيها وتحتار فيها فلا تستطيع أن تغلب جانب على جانب رغم معرفتنا للمتقدم والمتأخر من هؤلاء الشعراء فأنا حين أردد مثلاً أبيات عبدالله بن سجوان الرويس: الطير بالجنحان ما احلى رفيفه وليا انكسر حدى الجناحين ما طار ويمنى بلا يسرى تراها ضعيفة ورجل بلا ربع على الغبن صبار أتذكر قول عبدالرحمن البواردي: إن كان ما تفزع اليمنى ليسراها فاعرف ان ما وطا هذيك واطيها وأتذكر قول غزاي بن رسام المريبض: والكثر ما ينفع عمود الجرادي ولا تستوي اليمنى بليا خوية وحين نرجح أن البواردي وابن رسام أخذا المعنى من ابن سجوان لأنهما متأخران عنه زمنياً نتراجع فوراً حيث نجد أن أبيات هؤلاء جميعا تتشابه مع قول شاعر قديم سبقهم بسنوات طويلة وهو الكليف إذ يقول: واعرف بأن الطير سعده ريشه وإن قص ماله حيلة يحتالها وإن قصت اليمنى الشمال تحسفت وتندمت يمنى تقص شمالها ومن لا ينال معزة برفيقه نال المذلة دقها وجلالها وكذلك حين نقرأ قول راكان بن حثلين: الجدي خله فوق ورك المطية وبنحورها يبدي سهيل اليماني نتذكر فوراً قول الخلاوي: حط الجدي من خلف كتفيك بالسرى وعينيك ترعى داب لسهيل ناصبه وأما في الشعر المعاصر فمجرد سماعي لبيت ابن جدلان الأكلبي: ياطا الارض العتش كن تهزاعه بنت شيخ طامح من ولد راعي أتذكر قول بندر بن سرور: يوم يتخثع في محير الأداعيب يشدي تخطي جادل في حريره فالاحتذاء أو الاتكاء موجود في عالم الأدب بصفة عامة ونجده في الشعر النبطي كما هو نجده في الشعر الفصيح والتأثير والتأثر أمر لا شك فيه في هذا العالم الذي يتخذ من اللغة أداة للتعبير، والعقل الباطن يختزن من المعاني والصور والأفكار التي تمر على الشاعر سواء معايشة أو قراءة أو استماعاً وتظل عالقة في الذهن حتى تستمطرها العاطفة فيكون دور الشاعر هو موائمة الألفاظ وتنظيمها لتخرج في صورة باهية تلفت الأنظار ، ولكننا لا ننكر توارد الخواطر أيضاً في الفكرة والمعنى بين الشعراء سواء كانوا في عصر واحد أو تقدم أحدهما على الآخر وقد يقع للمتأخر معنى سبقه إليه المتقدم من غير أن يلم به ولكن كما وقع للأول وقع للآخر كما أكد ذلك أبوهلال العسكري من واقع تجربته الشخصية وللحديث بقية.