ذكرنا في المقال الأول ان الاقتباس عند علماء البلاغة القدماء يكاد يكون مقصوراً على اقتباس الشاعر من القرآن الكريم أو الحديث الشريف.. وذكرنا أن أكثر العلماء لا يجيزون ذلك، وخاصة من القرآن، تنزيهاً لآي الذكر الحكيم، ومنهم من أجازه بشرط أن يكون المعنى شريفاً والغاية نبيلة.. أما التضمين فهو أن يدخل الشاعر في أبيانه بيتاً (أو أبياناً) مشهورة، وكأنه يستشهد بها، وعادة ما يضع ما ضمن بين قوسين، كما أنه قد يضمن شعره الأمثال أو الحكم السائرة ليعطيه رونقاً وقوة.. وفي النقد الحديث دخل مصطلحا (الاقتباس والتضمين) تحت مصطلح (التناص) عند أكثر النقاد، بمعنى دخول النصوص بعضها في بعض، سواء أكان ذلك عمداً وقصداً أم من فيض العقل الباطن، إذ يشبهون النص الأدبي (بالفسيفساء) التي تتكون من عدة أحجار وألوان بشكل منسق جميل يمنحها شخصية رائعة مستقلة ننسى فيها تفاصيل الأحجار والألوان، والتي يقابلها في الشعر الألفاظ والصور.. * من أمثلة التضمين في الشعر الشعبي قول محسن الهزاني من رباعية له: وان زرفل المسيوق وارخو العنّه والجيش هربد والرمك يشعفنّه واهوى على ركن من الخيل كنّه: (جلمود صخر حطّه السيل من عالِ) * وقول ابن لعبون: «ينشدني يوم انتوى الكل برحيل: (هل عند رسم دارس من معول»؟ فضمن بيته نصف بيت لامرئ القيس.. وكذلك فعل ابن لعبون مع زهير بن أبي سلمى في قوله - ولكنه هذه المرة ضمن شعر زهير صدر البيت): (تبصّر خليلي هل ترى من ظعاين) تقازى بهم فوق الشفا من حزومها؟ «تقازى» تسير بهم مسرعة نوعاً معاً بما يشبه لفظة (المناقز وتناقز «والشفا» المرتفع من الحزوم جمع حزم وهو الهصبة. * ويقول الشاعر (جري) من قصيدة بليغة: «وترى روضة الجثجاث لوزان نبتها مر ولو هو كل يوم يسيل وعظم الندى يندى ولو كان بالي يندى ولو هو بالمراح محيل فان كان ما تعطي والايام عدله فالايام لازم عدلهن يميل والعوشزه ما ياقع الحرّ فوقها لابها لسمحين الوجيه مقيل وان كان ما نفع الفتى في حياته ترى النفع من بعد الممات قليل (ألا ما أكثر الخلان يوم نعدهم كثير وعند الموجبات قليل) فضمن البيت الفصيح - مع بعض التعديل - (فما أكثر الإخوان حين تعدهم ولكنهم في النائبات قليل) * والشاعر فلاح القرقاح القحطاني كثيراً ما يضمن شعره الأمثال والحكم بشكل متلاحم لا تكلف فيه مثل قوله: نقطة من حبر تكتبها تحل أكبر قضيّه وانت حر صيرمي (والحر تكفيه الاشاره) جابنا صدق الولا الموروث و(النيّه مطيه) جعل بيت العز ما يهجر ولا يهدم جداره) الله يسوّد وجيه اللي نواياهم رديه ولَّعوا نار الفتن (والنار تالع من شراره) اصبحوا بين الظهر والبطن (علّه باطنيه) (والثعل يبقى ثعل) في حجر وإلا في مغاره فضمن في شعره الجميل الكثير من الأمثال العربية والشعبية بشكل انسيابي يدخل في نسيج شعره.. كأنه ينسج سجادة أصيل.. * ومن الشعر الفصيح في التضمين قول صالح بن عبدالقدوس: إذا ما وترت امرءاً فاحذر عواقبه (من زرع الشوك لم يحصد به العنبا) يريد المثل العربي (انك لا تجني من الشوك العنب).. * وقول أبي تمام يعزي صديقاً له: وقال عليُّ في التعازي لأشعث وخاف عليه بعض تلك المآثم: (أتصبر للبلوى عزاءً وحسنة فتؤجر، أم تسلو سلو البهائم) فنظم قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه حين قال يعزي أشعث بن قيس في ولد له: (إن صبرت صبر الأحرار) والا سلوت سلوَّ البهائم).. * وقد يحل الناثر بيت شعر، قال الصولي «ما اتكلت قط في مكاتبتي إلا على ما يجيش به صدري أو يجلبه خاطري إلا قولي «فافبدلوه آجالا من آمال» فإني حللت فيه قول مسلم بن الوليد: «موف على منهج في يوم ذي رهج كأنه أجل يسعى إلى أمل» والتضمين قد يكون تلميحاً وفيه بلاغة لأنه يحتاج إلى استنباط، كقول أبي تمام: «لعمر مع الرمضاء والنار تلتظي أرق واحفى منك في ساعة الكرب» يلمح للبيت المشهور: «والمستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار» وفي علم البلاغة يفردون التضمين عن التلميح، والأخير أجمل إذا تساوت العناصر الأخرى.. وكلاهما من (فن البديع) في البلاغة.. *يقول الأخيطل: ولقد سما للخرمي فلم يقل يوم الوغى: (لكن تضايق مقدمي) فضمن جزءاً من بيت عنترة: «إذا يتقون بي الأسنة لم أخم عنها ولكني تضايق مقدمي» * ويقول ابن العميد - والبيت الأخير ضمنه من شعر أبي تمام): وصاحب كنت مغبوطاً بصحبته دهراً فغادرني فرداً بلا سكن هبت له ريح اقبال فطار بها نحو السرور والجاني إلى الحزن كأنه كان مطوياً على أحن ولم يكن في ضروب الشعر أنشدني: «إن الكرام إذا ما اسهلوا ذكروا من كاد يعتادهم في المنزل الخشن»