تشتكي منذ زمن.. أو حتى منذ أن عرفتها من سيطرة عالم افتراضي صنعته مخيلتها... عالم تفتح فيه أبوابها... وأراضيها لتتسع لما تريده.. ولما تدرك أنه يعنيها حتى وإن سيطر عليها احساس كلّ يغني على ليلاه.. أو حياته.. أو زمنه... عاشت الحياة.. حاولت جاهدة أن يكون لها مكان رئيسي، لا تصدّر.. أو صفوف أولى.. لكن تواجد حقيقي.. يخلو من الوصافة في كل الأحيان، ولا يحملها ذلك الاحساس المخيف بالتواصل الإجباري مع من لا علاقة لهم اقصد حقيقية بتفاصيل الحياة التي تعرفها ولا يعرفونها! ظل الاختلاف واضحاً، ومتسعاً وكأنه صحراء من عدم المعرفة أو التعارف أو التلاقي.. كثيراً ما آلمها أن تطلّ كل يوم على أرصفة من يزيدون في طقوس الحياة مرارة.. ومن يوزعون فائض مراراتهم على غيرههم، وكأنهم لا يتحملون هذا الفائض من الوجيعة والالتياع.. في التواصل اليومي الذي كانت تجاهد من أجل فهم ما به يبدو ما سوف تعرفه.. أو تتوصل إليه.. أو تنتهي به مجهولاً كالغد.. ومع ذلك لم يكن لها خيار آخر في التعامل مع غيره.. عصر لايزال باقياً.. وإن أفلت بعض أيامه ولياليه ولم يتبق منها سوى صور لذكريات ومشاعر اعتيادية وغير مدركة لذاكرتها! صور عادية.. تخلو من الاحتفالية كلما مررتَ بها.. أو حاولت إشعال ذاكرتك في يوم قائظ لتختفي في ظلالها.. صور فارغة أحياناً ولا تحمل سوى إطاراتها بعد أن كنتَ متخيلاً أن بقاءها قد يكون الضمانة التاريخية للاحتفاظ بها! عبثاً في ظل الفراغ تحاول أن تجد وجها لذاكرتك ترى من خلاله الصورة.. تعي أن ما كان حقيقياً.. وله اسم.. وكينونة.. وتفاصيل.. وموجة كانت مضبوطة جيداً وليست هاربة كما تبحث عنها الآن! لماذا تتحول بعض المشاعر إلى سلبية خالية من الملامح رغم أنه لم يكن هناك ما يدفع لصناعة هذا التحول؟ لماذا تتغير كل الألوان وتتحول إلى صورة معلقة على الحائط باهتة ستتغير عندما تريد ذلك.. أو يتسنى لك الوقت.. أن تجد الصورة المناسبة للمكان؟! في لحظة شعرتَ فيها أنك تعبث بذلك الزمن الذي ذهب والذي كان كما يبدو يملأ اللحظة بترفه.. وبأماراته.. وبالتهافت عليه.. حاصرك ذلك الاحساس الفارغ وهو أنك بعيد بما يكفي.. بعيد وفي عالم هو خيارك أنت، ولم يكن للآخرين فيه أي تدخلات.. بعيد عن أصوات ذلك الماضي التي بدت لحظتها جميلة ومنطلقة وتدفع إلى خرائط كنت تجهل مواقعها! وأنت تستمع إلى ذلك الصوت كنتَ تحاول العثور فيه على عيب واحد لكنك مع ذلك لم تنجح.. نغمة نشاز لم تجدها.. تعثُّر في الحروف لم تجده.. ظل الصوت مع الصورة غير مصقول في ثبات تواجده.. بل تحولت في تلك اللحظات إلى صورة وصوت سيظل مرموقا.. جذابا إلى درجة الخلود والبقاء.. لم تفكر في أي لحظة أن تمتحن حاسة البحث لديك.. أو التفتيش لما وراء الصورة التقليدية والحاضرة.. والتي اعتادت ان تحكي حكايات المدن كما هي منذ زمن وكأنه قد فات عليها زمن التغيير أو انها لاتزال تطل على مراكب زمنها فقط دون أزمنة غيرها.. لم يكن ذلك العالم مبهماً في ذلك الزمن، وستجهل أن تعرفه.. ولم يكن يحمل كل المثل التي من الممكن ان لا تتغير.. ولم يكن ذا ايقاع سريع كاتم للأنفاس عند الملاحقة.. لكنه مع ذلك كان الخيار المتاح.. وكان الصورة التي ظلت تنادي عندما هبط الغرباء على تلك المدينة.. بلا ذاكرة.. تشعر.. وتزيدكَ اللحظة إحساساً بحمل إرث أنه لم يكن هناك شيء.. حتى وإن ظللت بين حين وآخر تلتقي بتلك الأصوات من الماضي. المرء لايرث فقدان الذاكرة، ولا تتحول تفاصيلها إلى صقيع بارد.. لكن مع طوفان دهشة الامساك بفواصل كل ذلك الاختلال الذي كنتَ فيه تتخلص ببرود من أي شعور بالذنب.. مهما حاولت أن تستغرق في معرفة مفردات تاريخ بلا ملامح..