إن أي مجال استثماري يدخله المستثمر الأجنبي, ثم لا يستطيع الوفاء بالحد الأدنى من متطلبات التنمية الوطنية, فإن استثماره لن يكون أكثر من عبء إضافي يتحمله الاقتصاد الوطني, دون أن يعتاض عنه بقيمة مضافة حقيقية. أحسب أن فتح المجال للاستثمار الأجنبي إنما يتوخى تحقيق عدة أهداف إستراتيجية, من بينها, إن لم يكن على رأسها, هدفان خليق بأي اقتصاد وطني أن يجعلهما في موقع الصدارة حال فتحه أبوابه للاستثمار الأجنبي. أول الهدفين: التأكد من قدرة المستثمر الأجنبي على خلق قيم مضافة حقيقية للاقتصاد الوطني, بما سيجلبه معه من إمكانات فنية وتنفيذية عالية تتجاوز ما هو متوفر لدى المستثمر الوطني. ثانيهما: تطويع البيئة الاستثمارية التي يعمل فيها المستثمر الأجنبي لأن تكون محفزة للمستثمر الوطني لكي يستفيد مما يتوافر لدى المستثمر الأجنبي من إمكانات فنية وتقنية متقدمة تفوق ما ألفه في بيئته الاستثمارية المحلية. من واقع إملاءات هذين الهدفين, يمكن القول, إن أي مجال استثماري يدخله المستثمر الأجنبي, ثم لا يستطيع الوفاء بالحد الأدنى من متطلباتهما, فإن استثماره لن يكون أكثر من عبء إضافي يتحمله الاقتصاد الوطني, دون أن يعتاض عنه بقيمة مضافة حقيقية. نقول ذلك, مع الأخذ في الاعتبار ما تقضي به الأنظمة والاتفاقيات الدولية التي تكون المملكة طرفاً فيها, والتي قد تلزمها بالوفاء بالتزامات معينة. من جهة أخرى, هذان الهدفان سيكونان, أو هكذا يفترض, حكمين على أي أنظمة أو لوائح أو مقترحات قد تبتدرها الجهات المسكونة بهاجس توطين إيجابيات مبتغاة من الاستثمار الأجنبي, إن كانت دافعة لمزيد من تحسين بيئة المنظومة الاستثمارية باتجاه تحقيق الهدفين ذاتهما من عدمه. من جهتي, سأستصحب الهدفين لتقييم ما قرأته مؤخراً على صفحات هذه الجريدة(= الرياض), من أن ثمة مقترحاً للجنة الاقتصاد والطاقة بمجلس الشورى, يهدف إلى التوصية بإضافة مواد إضافية لنظام الاستثمار الأجنبي, من أبرزها:" النص على ألا يقل رأس المال الأجنبي المستثمَر حسب هذا النظام عن عشرة ملايين ريال سعودي من النقد الأجنبي القابل للتحويل, والمحول عن طريق أحد المصارف المسجلة لدى مؤسسة النقد العربي السعودي". و"أن تُلزَم الهيئة العامة للاستثمار بعرض جميع مشاريع الاستثمار الأجنبي التي تزيد قيمة رأس المال الأجنبي فيها على مئة مليون ريال على مجلس الشورى للموافقة عليها, مع اشتراط أن يصدر المجلس قراره خلال شهر من تلقي الطلب". وكذلك, "منع الأجنبي الذي كان يعمل في المملكة من أن يتقدم بمشروع استثماري ينافس به المنشأة السعودية التي كان يعمل بها إلا بعد خروجه من المملكة لمدة لا تقل عن خمس سنوات". بالإضافة إلى "إلزام المستثمر الأجنبي بإعطاء الأفضلية في المشتريات والتوظيف في مشروعه المقترح, للصناعة والأيدي العاملة المحليتين", إلخ. ومع تقديري لهذه المقترحات التي أفترض أن المجلس يبتغي من ورائها تحسين بيئة الاستثمار الأجنبي في المملكة, إلا أنني أعتقد أن ثمة مجالاً لاقتراحات أخرى, ربما تكون أجدر بابتدارها, في الوقت الراهن على الأقل. أولى المقترحات التي أرى أنها ستكون ذات أثر إيجابي سريع على الاقتصاد الوطني, تكمن في المضي قدماً في استثناء مزيد من النشاطات الاقتصادية التي يُحضر على المستثمر الأجنبي الدخول فيها, خاصة منها تلك النشاطات صغيرة أومتوسطة الحجم, والتي تمثل المجال الأكبر لاستثمار شريحة كبيرة من المقاولين السعوديين . ذلك أن نظام الاستثمار الأجنبي بمواده الحالية أعطى المستثمر الأجنبي حرية الدخول في كافة النشاطات, سواء أكانت صناعية أم تجارية بحتة (توريدات مثلاً), أم خدمية, بغض النظر عن طبيعتها, أوحجمها . في مقابل ذلك, أعطى النظامُ المجلسَ الاقتصادي الأعلى صلاحية استثناء ما يراه من النشاطات الاقتصادية من دخول المستثمر الأجنبي فيها:( المادة الثالثة منه). لكن المجلس لم يستثن من النشاطات الإقتصادية, منذ صدور نظام استثمار رأس المال الأجنبي حتى الآن, إلا نشاطات محدودة ليست, في رأيي, ذات طبيعة متكررة, بحيث يمكن النظر إليها كمجال رحب للإقبال عليها من قبل المستثمرين السعوديين. فهي نشاطات من قبيل:(استكشاف المواد البترولية, وتصنيع المعدات والأجهزة والملابس العسكرية, وتصنيع المتفجرات المدنية, والاستثمار العقاري في مكة والمدينة, وخدمات الإرشاد السياحي ذات العلاقة بالحج والعمرة, وصيد الثروات المائية الحية, ومراكز السموم وبنوك الدم والمحاجر الصحية). ذلك يعني أن الاستثناءات لم تمس بعدُ تلك النشاطات التي تلامس اهتمامات الطبقة المتوسطة من المقاولين, إذا جاز التعبير. تلك النشاطات التي هي من قبيل:(سفلتة الطرق ورصفها وتشجيرها, وإنشاء الحدائق العامة, وإقامة المباني والجسور الصغيرة والمتوسطة, ومشاريع درء أخطار السيول, وشبكات المياه, وخدمات الصرف الصحي ,وإعاشة المستشفيات, وخدمات الصيانة والنظافة والتشغيل, وتوريد قطع الغيار والمعدات بأنواعها), وما أشبه. هذه النشاطات ومثيلاتها يصدق عليها وصفان يصلحان كمبررين لاستثنائها من دخول المستثمرين الأجانب في المنافسة عليها. هذان الوصفان هما, أولاً:أنها نشاطات تمثل عصب بيئة الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة, مما يعني أنها مرتع غالبية المقاولين السعوديين, الذين يمكن أن نطلق عليهم وصف: الطبقة المتوسطة في الاقتصاد الوطني. ثانياً: أنها نشاطات لا تحتاج إلى تأهيل فني عال يستدعي الاستعانة بخبرات أجنبية, إذ إنها تنفذ عادة بواسطة مقاولين غير مصنفين(= نشاطات لا تحتاج إلى تصنيف,إما لطبيعتها, كتوريد قطع الغيار. وإما لصغر حجمها المالي), وبدرجة عالية من الكفاءة. ثمة مقترح آخر, يتمثل في إعادة النظر في ما جاء في نص المادة السادسة من النظام, القاضي بأن للمشروع الأجنبي المرخص له, "أن يتمتع بجميع المزايا والحوافز والضمانات التي يتمتع بها المشروع الوطني حسب الأنظمة والتعليمات". وبما جاء في نص المادة الخامسة من اللائحة التنفيذية لنفس النظام, القاضي" بأن تتمتع منشآت الاستثمار الأجنبي بالمزايا والحوافز والضمانات التي تتمتع بها المنشآت الوطنية". ذلك أنه إذا كان بالإمكان القول, إن تمتع المستثمر الأجنبي بالضمانات كاملة غير منقوصة (مفهوم) من ناحية قصد تهيئة البيئة الاستثمارية المحلية لتكون في حدها الأدنى من الأخطار التي قد تحد من إقدام المستثمرين الأجانب على الاستثمار فيها, فإن مساواتهم مع المستثمرين الوطنيين بجميع المزايا والحوافز, مضافاً إليه السماحُ لهم(= المستثمرين الأجانب) في الدخول في كافة المشاريع, لا بد وأن يكون عاملاً يثقل كاهل الاقتصاد الوطني من ناحيتين: ناحية تضاؤل فرصة خلق قيمة مضافة مستهدفة من إحلال الاستثمار الأجنبي من جهة, وناحية ما يترتب سلبيات على ثقل حمل التنافس غير المتكافئ على المقاول السعودي. ويمكن الحد من هاتين السلبيتين ب"تمييز" التقويم الفني والمالي للمستثمرين الأجانب, مقارنة بالمستثمرين الوطنيين. ويتم ذلك بأن ترفع, مثلاً, الحدود الحالية لدرجات التصنيف بالنسبة للمستثمر الأجنبي, مقارنة بالحدود المالية الحالية التي تبقى مقصورة على المستثمرين السعوديين. مثلما يمكن أن تضاف عناصر أخرى لجوانب التقويم الفني المذكورة في المادة الرابعة من لائحة التصنيف, خاصة بالمستثمرين الأجانب. لا سيما وأن المقصد الأساسي من فتح الباب للاستثمار الأجنبي إنما يكمن, كما أشرنا آنفاً, في جلب خبرات ومهارات عالية لا تتوفر, أو بعضها لدى المستثمر الوطني. وأحسب أن ثمة حاجة ماسة لإعادة العمل بمضمون الأمرين الساميين, رقم( 3/و/2601 )وتاريخ 10/2/1401ه , ورقم( 3/و/23401 )وتاريخ 18/ 10/1401ه. الأمر الأول كان يقضي بقصر مقاولات الطرق والجسور العادية والمباني الصغيرة والمتوسطة على المقاولين السعوديين دون غيرهم. أما الأمر الثاني, فيقضي بقصر المقاولات غير الإنشائية مثل أعمال الإعاشة والصيانة والتشغيل والنظافة والنقل وتوريد المواد الخام وما شابه ذلك عليهم(= المقاولين السعوديين) أيضا. ثمة ملاحظة جديرة بالحديث عنها هنا, وهي أن مجلس الشورى, حسب الخبر, ينوي التوصية بإلزام المستثمر الأجنبي إعطاء الأفضلية في المشتريات والتوظيف في مشاريعه, للصناعة والأيدي العاملة المحليتين. بالنسبة لتوظيف الأيدي العاملة الوطنية, فإن المستثمر الأجنبي يخضع, حسب نظام المنافسات والمشتريات الحكومية ولائحته التنفيذية, لنفس نسبة توطين الوظائف المطلوبة من المستثمر الوطني , إذ لا يمكن ترسية أي مشروع على أي مستثمر, سعودياً كان أم أجنبياً, مثلما لا يجوز صرف مستخلصه الختامي إلا بعد حصوله على شهادة تصدر عن وزارة العمل, تؤكد وفاءه بنسبة السعودة المطلوبة منه,( المادة الثانية عشرة, والمادة السادسة والستون من اللائحة التنفيذية لنظام المنافسات والمشتريات الحكومية). وبالتالي فإن توصية المجلس لا معنى لها في هذا المجال, إلا في حال تضمن المقترح رفع (نسبة) توطين الوظائف بالنسبة للمستثمر الأجنبي مقارنة بالوطني. أما بالنسبة للمشتريات, فأكاد أؤكد ,من وحي الخبرة العملية في المجال ذاته, أن مثل هذا الأمر لن يكون له أي أثر على أرض الواقع ما لم يُبطن بضمانات تجبر المستثمر الأجنبي على الالتزام به , كما هو الأمر بالنسبة لنسبة توطين الوظائف.