تتفرّد رحلة "ليوبولد فايس" إلى جزيرة العرب عن سواها من رحلات الغربيين بالتحوّل الجذري الذي لحق بصاحبها بعد اتمامها، فما حدث هو أنّه لم يعد إلى ما كان عليه من قبل بأيّ شكل من الأشكال، إذ غيّر اسمه، واتخذ اسما جديدا هو "محمد أسد". لم يكن ذلك انتحالا للتخفّي والتنكّر إنما اختيار طابق فيه بينه وبين معتقده الجديد، فباليهودية استبدل الإسلام، وارتدى اللباس العربي طوال مكوثه في قلب جزيرة العرب، وتعلّم لغة القرآن ليتفقّه في أحكامه، والراجح أنه أجرى قطيعة جريئة مع كل ما ربطه بالماضي؛ فكان ذلك مبعث أسى لعائلته اليهودية، التي ازدرته على اختيار أمر لا يحتمل، لأنه انزلق إلى ما تحذرّ منه اليهودية عبر التاريخ، إذ يُحرّم هجرها واعتناق سواها، فذلك ارتداد صريح ينطبق عليه حكم الردّة فيها، كالعصيان، والفسوق، ومفارقة أمر الله. وكان لعائلته شأن مرموق في اليهودية، فجدّه حاخام معروف، أما أبواه اليهوديان فتشبّثا بمعتقدهما، وقتلا في المحرقة النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وعلى هذا جاء انفصاله صعبا، فقد فارق الجماعة الأصلية وانتمى إلى جماعة جديدة، وعاش معها مرتحلا ومستشارا وموظفا ومفكرا، وحتى رفاته احتضنتها مقبرة إسلامية، وقد دوّن رحلة اكتشافه، بمعناها الديني والمكاني، في كتاب ذائع الصيت، هو "الطريق إلى مكة" الذي صدر في عام (1954) وترجم إلى العربية، أول مرة، بعنوان "الطريق إلى الإسلام" فجرى تغليب موضوع الارتحال من معتقد إلى آخر، على الارتحال من مكان إلى مكان. وما من شك في أن مغامرته زلزلت وسطه العائلي شبه المغلق، لأنه التمس حلا لشكوكه في غير الدين الذي ورثه عن أسلافه، فوصم اختياره بالزيغ، والانحراف عن الطريق القويم. ولد "ليوبولد فايس" في عام 1900 وظهر عليه ميل مبكر لإشباع حاجاته الروحية، وربما يعود ذلك إلى كونه تربّى في بيئة يهودية تريد حماية نفسها بالتوغل في الإرث الديني، فانكبّ على الأصلين الكبيرين لليهودية: التوراة والتلمود، ينهل منهما ما كان يريده، فما يحتاج إليه يهود الشتات إنما هو الانكباب على التوراة وتفسيرها حفاظا على وحدة الجماعة من التفكك والاضمحلال، لكنه لم يلبث أن ضبط تناقضا بين الممارسة التأويلية للنصوص المقدسة وتطبيقاتها، فالتصور "القبالي" ذو النزعة الصوفية الذي ارتكز على قاعدة الاهتمام بمصير الجماعة اليهودية بوصفها أمة مختارة، يتناقض مع القول بأن الله خالق لبني الإنسان كلهم، فلا يستقيم أمر تفضيل جماعة بعينها مع فكرة الخلق الشاملة، ومادام الله ربّ العالمين، فمن الخطأ أن يختص أمة ما برعايته الكاملة، ويفضلها على سائر الأمم، فتلك جراءة على الله لا يقبلها العقل. ولعلّ هذا التضارب قد راع الفتى وأذهله، فالله لا يمكن أن يتناقض في شؤون خلقه فيجعل منهم هرما تتبوأ الجماعة اليهودية ذروته، وتصدّعت صلته بالتأويل الديني لليهودية، ذلك أن كشف التناقض من الأسباب الأساسية للنكوص من دين والالتحاق بآخر تكون فيه الأسئلة المحيرة أقل وقعا على النفس، وأكثر مرونة في القبول والتعايش. من الصحيح أن العقائد طوّرت تفسيرات ضيقة حول علاقة الله بمؤمنيها لكن لا يجوز تقويل الله ما لم يقل، وبتفكيره في مثل هذه الأسئلة النقدية كفّ "فايس" أن يكون يهوديا قحّا، ولم يعد قادرا على الانسياق وراء الأفكار الجاهزة. وبات على شبه يقين أنه مقبل على اختيارات أخرى في حياته تلهمه بما كان يبحث عنه. وفيما كانت هذه الأفكار تنمو في نفسه تلقّى دعوة من خاله المهاجر إلى فلسطين في عام 1922 يطلب إليه زيارته في الأرض التي قيل أن الله وعد العبرانيين أن تكون وطنا لهم، ليتعرف إلى تجربة طلائع المستوطنين في تأسيس الدولة التوراتية الموعودة، فقد يغريه ذلك الالتحاق بهم، لكنه بدل أن يشغل بأحوال المهاجرين اليهود لفت انتباهه أمر الفلسطينيين، السكان الأصليين للبلاد، فكان أن مال لمعرفة أحوالهم في أرضهم، وخلص إلى أن كل مزاحمة من هذا النوع سوف تنتهي بإحلال جماعة محل جماعة أخرى، ولم يغب عنه أن احتكار قداسة المكان لجماعة دون أخرى قادت، وسوف تقود، إلى حروب مقدسة، يتقاتل فيها البشر باسم الله، رافعين لواء جهاد تتوفر عليه الديانات السماوية كلها، فتلك نظرة متعالية تريد الاستيلاء على الأرض باسم ربّ العالمين، فلا ينظر للأغيار إلا بوصفهم غاصبين لحقوق وعد الله بها، وبإزاء فرضيات لاهوتية كثيرة في التراث اليهودي حول الأرض الموعودة، وجد من الضروري له أن يهبط من السماء إلى الأرض، فراح يعاين أحوال الناس، الأصليين والوافدين، ورجح له أن علاقة الفلسطينيين بالأرض غير علاقة المهاجرين اليهود بها، فهؤلاء يريدون تكريس الأرض باعتبارها وطنا خالصا لهم لا يشاركهم فيه أحد، وتلك رغبة مبهمة متصلة برواية توراتية تواترت عبر العصور، أما أولئك فينتمون إليها، ويعيشون فيها، ويتفاعلون معها، وقد طوروا تراثا غزيرا أسهم فيه المسلمون والمسيحيون واليهود، وهي حقيقة تاريخية لا تغيب عن أحد، فضبط المفارقة الثانية في حياته، كما ضبط المفارقة الأولى الخاصة بعمومية خلق الله، وخصوصية تفضيل اليهود، وبوسعنا القول إنه انتهى من خلال ذلك إلى كشف مضمون الفرضية القائلة بأن خطأين مترادفين لا يصنعان صوابا واحدا، إنما تدشن لاختيار صحيح. كانت زيارته إلى فلسطين حاسمة، وأفضت إلى غير ما كان ينتظر منها، فقد وجد في نفسه قبولا للسكان الأصليين، وعليه أن يعترف بحقهم في أرضهم، فقال عن سكان مدينة القدس من العرب "منذ اللحظة الأولى، تشكّل لديّ انطباع بأن هؤلاء هم أهل البلاد الأصليين، فقد كانوا مشدودين إلى الأرض وتاريخها ومتماهين بأجوائها". وخلال وجوده في فلسطين توثقت علاقاته بالعرب أكثر مما توثقت ببني جلدته. وارتسم له خيار أولي، فمن فرط بهجته اندفع خطوة صوب الإسلام الذي لاح له بأنه قدره إلى الأبد، فحدوسه اتجهت صوب ذلك الدين الذي أثار شغفه. ففضلا عما كشفه له وضع المهاجرين اليهود الذي راحوا بشتى الوسائل ينتزعون الأراضي الفلسطينية شبرا بعد شبر بالمال والقوة، فقد وجد في الإسلام ما لم يجده في سواه، ذلك أنه اقترح حضارة إنسانية عابرة للقوميات، ومتخطية للأعراق، وداعية للمساواة بين المؤمنين، فلا إقرار بالتفاوت الطبقي، ولا التفاضل الديني، إلا على أساس من التقوى، وهو ما تفتقر إليه اليهودية، وحتى المسيحية، القائمتان على ترسيخ فكرة الكهنوت، وهي فكرة أمست ممقوته لدى الفئات المستنيرة في الغرب بفعل ظهور الدولة المدنية، وكاد يبطل مفعولها سوى أنها تذكر بالحقب المظلمة لشعوب أوربا. ولعل ذلك قد خلخل المعتقدات الموروثة لدى "فايس" فلن يصلح أمر القلق الديني جذريا إلا بالهجرة إلى دين يوفر السكينة، ويقبل الأسئلة الكبرى، فكان ذلك، بالنسبة له، هو الإسلام. ولم يعد في وارده العودة إلى الماضي، بل سيكون دأبه المضي في طريق الإسلام إلى النهاية. وفي عام 1927 هجر "فايس" الغرب واليهودية معترفا بصراحة "من دون إشعار مسبق وصل عالمي القديم إلى نهايته المحتّمة، ذلك العالم المملوء بالأحاسيس والتطلعات والتخيلات الغربية، أقفل بابه ورائي بصمت، ولم يعد يعني لي شيئا بعد ذلك". وقع تحول لم يكن قد طرأ في البال لكنه تنامى ببطء، ثم فجأة استقام حقيقة لا يمكن نكرانها، وحينما يتعرض المرء إلى هزّة عنيفة مثل هذه، فلا بد أن يلازمه قلق السؤال، والحال فإن الانقطاع عن عالم قديم وملامسة عالم جديد، بعث فيه الارتياح أكثر من الحيرة، فكأن سنوات تأمله قد أنضجت ثمرة اختياره، ولم يبق إلا أن يرمي نفسه في لجة الاختيار الجديد، ويتمرّس بالوسيلة الموصلة إليه. وما أن حطّ رحاله في جزيرة العرب حتى سارع إلى التعرف إلى الإسلام مباشرة، وراح يتعلم العربية بالمعايشة في وسط عربي صميم متصل بالصحراء ومتفاعل معها، وكانت تلك فترة مضطربة عرفت محاولات الملك عبدالعزيز آل سعود بتوحيد أطراف شبه الجزيرة العربية، بحملات عسكرية لا تكاد تنتهي وسط تحولات عالمية كثيرة، فظهر له من المناسب أن يتعرف إلى أفكار هذا الوافد الذي تخلّى عن حضارته الغربية ومعتقده اليهودي، واعتنق الإسلام ووجد في حضارته الحلول المناسبة، وسرعان ما اختاره مستشار له يقدم له المشورة فيما يطلب، ثم أغراه الملك بالزواج، وحظي بدعمه ورعايته، ومحضه ثقة مؤكدة، فأمضى سنوات اندمج فيها في مجتمع جزيرة العرب، وبخاصة في نجد، وقد أصبح جزءا من الجماعة الصحراوية وهي تثبت قواعد دولة جديدة في مركز شبه الجزيرة، فجعله ذلك شخصا جديرا بالتقدير. غير أن "فايس" كان متطلّبا في أسفاره، فما أن حلّ عام 1932 حتى شرع برحلة طويلة قادته إلى الهند، ثم الصين، وانحدر جنوبا صوب أندونيسيا، وعاد ثانية إلى الشمال حيث التقى في مدينة "لاهور" بالشاعر والمفكر "محمد إقبال" الذي اختاره مساعدا له، واغراه في أن يعملا معا، إذ وجد فيه رفيقا مفيدا في تنشيط العمل الفكري والأدبي، فقبل أن يكون عونا له في تنظيم مدوّناته، وسرعان ما تعلّم الأوردية، لكنه، فضلا عن ذلك كان مشغولا بالخيار الإسلامي وحلوله في عالم يشهد تحولات قيمية كبيرة، فنشر كتابه "الإسلام في مفترق الطرق" في عام 1934 وفيه دعا بصراحة إلى الحذر من تقليد التجارب الغربية في الحكم، وفي تنظيم العلاقات الاجتماعية، بل ينبغي الحفاظ على الإرث الإسلامي، وتحرير الإنسان من القيم المادية التي رسختها الحداثة الغربية. وقامت حجته على قاعدة تقول إن الحضارتين الغربية والإسلامية تقترحان طرائق للحياة متضاربة وغير منسجمة على المستوى الروحي، وعليه فلا بد من الاختيار الصحيح، فانقطاع المسلمين عن مرجعية راسخة في المخيال والعقل والوجدان سيفضي إلى نوع من الاقتلاع، وهذا بدوره لا يكسبهم بديلا يعالجون به أمور حياتهم، إنما يدرجهم في التبعية؛ فللحضارة الغربية مقترحها الذي لا يوافقهم لكونه نابعا من السياق الثقافي والاجتماعي للغرب، وقد أصبح كتابه مرجعا لكثير من المفكرين الإسلاميين، ومنهم سيد قطب الذي استعار منه أفكاره الأولى. وجاءت الحرب العالمية الثانية لتكون وبالا عليه، فلم يبخل عليه الزمن بالتنكيل بابيه وأمه من طرف النازيين في المانيا، إنما دفع هو أيضا بعض الثمن باعتباره مواطنا نمسويا وتابعا لدول المحور، فاعتقلته القوات الانجليزية في الباكستان، وأمضى سنوات في السجن باعتباره مواطنا لدولة عدوة، إذ كان التصلّب آخذ بالازدياد في عالم ارتفعت فيه الريبة بالآخر إلى ذرى عالية، وقد ارتسمت خارطة للتطرّف القادم، وحينما انتهت الحرب وأفرج عنه فضّل الإقامة في "لاهور" وانهمك لسنوات في صياغة دستور لباكستان ذي صبغة إسلامية بعد الانفصال الذي عرفته شبه القارة الهندية، وقد جرى اعتماد مسودة ذلك الدستور في عام 1956، فكان أن تولّى هو مناصب مهمة في الباكستان، في وزارة الخارجية، فانتهى به الأمر ممثلا لها في الأممالمتحدة، فواجه صعابا في إيجاد مكان لهذه الأمة الجديدة بين الأمم، وما أن عاد حتى قوبل بمزايدات السياسيين الوطنيين، وكدرهم الوظيفي، وريبتهم بشخص أجنبي ذي أصول يهودية، فتلك من الثوابت التي يصعب محوها في مجتمعات ركدت فيها الفاعلية، إذ فيما كان يسعى إلى خدمة بلادهم كانوا يسعوم إلى إزاحته، وانحسر قبوله بينهم، فاعتراه شعور بالخذلان، إذ قوبل بغير ما كان ينتظر، فعجّل بتقديم استقالته، وتحرر من كوابح العمل الوظيفي وشروطه، وراح يستعيد تجاربه الروحية، ويصوغ أفكاره، مترسّما خطى الرحّالة، وشرع في رواية تجربته الشخصية في الارتحال إلى جزيرة العرب، واكتشاف الإسلام، وذلك في كتابه "الطريق إلى مكة - 1954" ثم حرر كتابه "الإسلام والغرب: مواجهة بين عالمين - 1960" ثم كتابه "مبادئ الدولة والحكم في الإسلام - 1961" وفيه قدّم أطروحته الفكرية الرئيسة حول مبادئ الشريعة الإسلامية وإمكانية أن تكون قاعدة لدستور إسلامي حديث. على أنه طوال ذلك الوقت كان مشغولا، فضلا عما ذكر، بترجمة مبسّطة لمعاني القرآن الكريم إلى الانجليزية. وواصل أسفاره في كثير من أقطار العالم، وبخاصة الإسلامية منها، إلى أن انتهى الأمر به لتدبيج وصية ملزمة، وهو أن يدفن في المقبرة الإسلامية في غرناطة، وحدث ذلك حالما وافاه الأجل في عام 1992. وطوال عمره المديد كان محمد أسد ينعش نفسه بإسلام مرن، رافقه حيثما حلّ، وأينما ارتحل. فرادة كتاب "الطريق إلى مكة" متأتية من أن صاحبه رسم ببراعة نادرة تجربة مزدوجة كشف فيها الإسلام والمجتمعات الإسلامية معا، فلغته صافية، وأفكاره صادقة، وتصويره غني، وأحاسيسه مرهفة، وتركيبه عجيب. وتزامن فيه مستويان مادي وروحي؛ ففي الوقت الذي تقدّم فيه كرحالة لاكتشاف المجتمعات الإسلامية، انبثق في داخله تحول ديني من اليهودية إلى الإسلام، فانتهى إلى الربط بين المعرفة والتحوّل بما لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، وفيما بدأ "محمد أسد" برحلته المضنية من نجد إلى مكّة برفقة دليله زيد، توازت في كل مرحلة من مراحل رحلته الصحراوية تجربتان: حياتية وروحية، بما يمثل توازيا محكما بين السرد والحكاية، وداخل كل منهما تضمينات متناثرة، وحالما بلغ مشارف مكّة، بلغ أيضا نهاية وصف رحلته الروحية إلى الإسلام، ولكن ليس عبر بناء متتابع للأحداث، إنما في انتخاب أحداث متداخلة عبرت عن ذرى التحولات النفسية لديه، لكن الكتاب لم ينته عند هذا الحد، وينغلق على نفسه، إنما هو كشف حفري، وتاريخي، وديني، واجتماعي، وسياسي، لشبه الجزيرة العربية في العقد الثالث من القرن العشرين، ولكثير من المجتمعات الإسلامية في إيران، والعراق، ومصر، وشمال إفريقيا، حيث جاب هذه الأماكن في مهمات كثيرة. وهو كتاب خالب للبّ لما يتوفر عليه من قوة الوصف، وشغف بمعرفة الأشياء والبشر، والتحليل المعمّق للظواهر الدينية والاجتماعية، أما تصويره لحالات التأمل وهو يمخر البيداء العربية فقد تدفق كتيار صاف من الماء العذب، ومع أنه خيّل إليه بأنه يلاحق سرابا متباعدا كلما إعتلى كثبان رمل، أو انحدر إلى وهد، فقد ارتوى ظمأه في مياه الحقائق الكبرى، فأعاد تمثيل تجاربه بشغف غزير يقارب شغف حدوثها.