تحول هيئة الإسكان إلى وزارة، سوف يكون له انعكاس إيجابي دون شك على مقدرة المملكة في التعامل مع مشكلة الإسكان التي تتنامى يوما بعد يوم، على أن الخوف يكمن اساسا في السياسات المتبعة في بناء المساكن التي تظهر هنا كمجمعات سكنية تقليدية تكلف الكثير لكنها لاتتعامل مع احتياجات الأسرة السعودية، فقد قمت شخصيا بدراسة بعص مشاريع الاسكان التي نفذتها الدولة قبل أكثر من عقدين من الزمن، فمن الساعة التي استلم فيها الناس مساكنهم بدأوا بالتغيير والإضافة، وقد زرت أحد المشاريع مؤخرا فوجدت أن البيوت تغيرت كلها حتى إن البعض اضاف طابقاً جديداً والبعض الآخر أضاف غرفاً جديدة في الحديقة. هذا أمر طبيعي ومتوقع خصوصا وأن كل أسرة تختلف في الحجم والاحتياج والتذوق والرؤية، ويصعب أن نجد هناك من يتفق مع الآخر في شكل وصورة المسكن، وبالتالي فإن بناء 500 الف وحدة سكنية بنفس المواصفات والحجم والشكل (حتى لو كانت هناك عدة نماذج سكنية) فإن هذا يعني أننا نفترض أن هذه الأسر متفقة في الاحتياج والرؤية الجمالية وهذا أمر غير حقيقي، الأمر الذي يعني أننا سوف نبني كل هذه الوحدات السكنية ونتركها بعد ذلك كي يقوم الناس بتغييرها (أو على الأقل تشويهها) وفي هذا هدر اقتصادي كبير جدا، كما أنه ينتج بيئات سكنية مشوهة. على أن البعض قد يقول يمكننا أن نضع قوانين صارمة تمنع التغيير فلا أحد يستطيع أن يمس الوحدة السكنية من الخارج، ونترك له أن يتصرف ويعدل ما يشاء من الداخل، وهذا أمر ممكن لكنه سوف يحد من تطلعات الأسرة ويجبرها أن تسكن في مساكن غير ملائمة لها فيقل الرضى عن المسكن. والحقيقية أنه من خبرتي المتواضعة في هذا المجال، فإن الرضى عن السكن يأتي في المقدمة بالنسبة لأي إنسان، فنحن نريد أن نحل المشاكل ونسهم في سعادة الأسرة وأفرادها لا أن نجبرهم على أن يسكنوا بيوتا غير ملائمة لهم. إذن نحن أمام معضلة كبيرة أعتقد أن وزارة الاسكان منوطة بها، فهي الآن المسؤولة عن السكن وملاءمته وليس فقط بناء مساكن يمكن أن تزيد من حجم المشكلة وتكرس الهدر الاقتصادي. نحن أمام معضلة كبيرة أعتقد أن وزارة الاسكان منوطة بها، فهي الآن المسؤولة عن السكن وملاءمته وليس فقط بناء مساكن يمكن أن تزيد من حجم المشكلة وتكرس الهدر الاقتصادي. يضاف إلى ذلك أن بناء مساكن حكومية على شكل أحياء كاملة غالبا ما تصنع صورة ذهنية سلبية، أي أن هناك ما يسمى "بالوشم" أي أن تلك الاحياء توشم بأنها أحياء لمحدودي الدخل، حتى لو أنها كانت بيوتاً مبنية بشكل جيد وحتى لو كلفت الدولة مبالغ طائلة. الوشم الاجتماعي غالبا ما يصاحب السكن وفي اعتقادي أن هذه الاشكالية سوف تجعل محدودي الدخل والأسر تحت المتوسطة هي التي تقبل على مثل هذه المساكن حتى لو أنها وزعت على فئات مجتمعية مختلفة فهناك ما يسمى بالتجمع الطبيعي Clustering ويعني هنا تجمع الفئات الاجتماعية المتشابهة في أحياء سكنية معروفة (فنحن نقول الطيور على اشكالها تقع) ويبدو أن الأحياء السكنية المجمعة التي تبنى في وقت واحد وبمواصفات واشكال واحدة تصنع مثل هذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة، أي أننا سنبني أحياء يمكن أن تتحول إلى بؤر اجتماعية سلبية، وهذا أمر يجب أن تفكر فيه الوزارة بتروٍ ويجب أن تضع الاحتياطات اللازمة لمنعه. وتبقى مشكلة توزيع المساكن ومن هو المستحق لها، فإذا كان التوزيع على أساس الاحتياج المادي سوف نكرس فكرة "حي الفقراء" الذي هو "وشم" غالبا ما يسهم في تراجع هذه الاحياء بعد سكنها وتحولها إلى مناطق غير مرغوب فيها اجتماعيا. لكن يمكن توزيع هذه المساكن كما قام صندوق التنمية العقارية قبل عقدين عندما أجرى قرعة على المتقدمين للقروض العقارية ومن يرغب يستطيع أن يدخل القرعة، لكن هذه المرة لن تكون جاذبية هذه البيوت بنفس جاذبية البيوت السابقة، فقد زاد القرض العقاري إلى 500 الف ريال وقيمة المسكن الذي ستبنيه الوزارة لن تزيد قيمته عن 500 الف ريال وبالتالي فإن أي مفاضلة بين الاثنين سوف ترجح الاستمرار في القرض العقاري حتى لو كانت الأرض هنا مجانا، لكن كثيراً من الناس يقولون "الجار قبل الدار"، أي أن اختيار الجيران يعتبر أمراً مهماً وأساسياً بالنسبة لأي أسرة. هذه المعضلات تبدو غير مهمة بالنسبة للبعض داخل وخارج الوزارة، وأنا أعذرهم لأن "هم" التمويل وتوفير الأراضي المناسبة لبناء مساكن في كافة مناطق المملكة تحتل مساحة كبيرة من أذهانهم وهمومهم وهي معضلات أساسية ومن دونها لايتم بناء المساكن أصلا، على أنه من الضروري أن نفكر في إنجاح هذه المشاريع السكنية التي سيصرف عليها 250 مليار ريال تقريبا، نود أن نستفيد من هذه الفرصة لبناء أحياء سكنية ملائمة وناجحة لا مجرد أن نبني بيوتاً غير صالحة للسكن أو أنها تتحول مع الوقت إلى بؤرة اجتماعية سلبية. ربما تحتاج وزارة الإسكان الجديدة إلى "مرصد" اجتماعي/سكني يبحث في العلاقة بين السكن والأسرة السعودية والتحولات التي طرأت على هذه العلاقة خلال العقود الماضية ويشخص الوضع الراهن بشكل دقيق ويحدد ملامح المستقبل. هذا المرصد يجب أن يكون خلية حية ومستمرة في الرصد لأنه يجب أن يكون مثل جهاز جس النبض، إنه يرصد الوضع الراهن في الوقت الملائم ويضع أفكاراً للتعامل المستقبلي لمشاريع الاسكان بناء على دراسة المشاريع القائمة (دراسة ما بعد الإشغال) POE وهي دراسات رصدية مستمرة. الفكرة هنا تهدف إلى عدم الاستعجال في البناء ولكن في نفس الوقت عدم التوقف وهذا يحتاج إلى تنظيم إداري فعال يستطيع أن يوازن بين "المعلومة" وبين "البناء". هناك الكثير الذي يمكن أن يقال عن سياسات الاسكان وفي اعتقادي أن ما ذكرته هو مجرد تنبيهات سريعة فالوزارة يجب أن تستفيد من تجارب الدول التي سبقتنا في هذا المجال، لأن أغلب مشاريع الاسكان واجهت مشاكل كبيرة حتى إن كثيراً من الدول الأوروبية أزالت أغلب مشاريع الاسكان التي تم بناؤها بعد الحرب العالمية الثانية لأنها أصبحت مصدر إزعاج للمدن. الأمر يحتاج إلى تروٍ وإلى تفكير ويحتاج إلى وضع رؤية مبنية على دراسات وافية وعميقة للمجتمع السعودي والتحولات التي طرأت وستطرأ عليه.